في الحاجة إلى التربية
لما كان الإسلام دين الإنسانية، وخاتم الأديان، فقد جاء بمنهج متكامل لتنظيم حياة البشرية في كل المجالات.
ومن يتدبر كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله ، وأخبار السيرة المطهرة، وتراجم الصحابة والتابعين والدعاة على مدار القرون، يستيقن أن هذا الدين وضع للناس قواعد تربوية متكاملة وشاملة، وحدد لهم منهجا واضحا يسيرون عليه، ويربون بواسطته الأجيال تلو الأجيال، ليكونوا أهلا لحمل الأمانة التي أناطها الله تعالى بالإنسان، والمسؤولية التي شرفه بحملها يوم أن أكرمه الله عز وجل بالاستخلاف في الأرض.
والحاجة إلى التربية الإسلامية شديدة لأن العقول البشرية لا تستطيع وحدها إدراك مصالحها الحقيقية التي تكفل لها سعادة الدارين: الدنيا والآخرة، كما أنها لا تهتدي وحدها إلى التمييز بين الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، فالإنسان ليس كامل الحواس والعقل، ومن ثم فإن مداركه ومعارفه مهما وصلت إلى درجة عالية، فإنها تبقى قاصرة ومحدودة..
لذا ينبغي أن يكون الإسلام هو المصدر الأساسي الذي يستمد منه المجتمع فكره التربوي، وأهدافه التربوية، وأسس منهجه، وأساليب تدريسه، وسائر عناصر العملية التعليمية، قال تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}(الأنعام : 154).
يتضح من الآية الكريمة أنه لا سبيل إلى تلافي هذا النقص وذلك القصور إلا بتفهم أصول التربية الإسلامية من مصادرها الأصلية، والرجوع إلى سير السلف الصالح للاقتداء بهم.
البناء هو الطريق الصحيح
لإعداد الأمة
إن من أهم الطرق لإعداد الأمة هو البناء التربوي التراكمي المؤصل، وهذا يعني: أن هذا البناء التربوي التراكمي المؤصل يندرج تحته عدة معان:
فهو أولا من البناء، والبناء يخالف الهدم، فهو عمل إيجابي.
ثم هو عمل تربوي، يتعلق بتربية الأمة رجالا ونساء، كبارا وصغارا، شبابا وكهولا، بنين وبنات، فهو بناء تربوي يدل اسمه على الفئة المستهدفة، والبرنامج المتخذ لتحقيق هذا الغرض.
ثم هو أيضا تراكمي، بمعنى أنه لا يمكن أن يتم بين عشية وضحاها، وإنما يبنى بعضه على بعض حيث إن اللاحق يستند على السابق، والمتقدم يكون لما بعده ارتباط به.
ذلك أننا عندما نضع منهجا من هذه المناهج يجب أن لا نجعل المناهج منفصلة -ينفصل بعضها عن بعض- بل ينبغي أن تكون مترابطة متماسكة، كترابط الجسد، فكل عضو فيه له ارتباط وثيق بالعضو الآخر كما بين النبي : >مثل المومنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى<(رواه البخاري).
فهو يدل على الترابط الوثيق بين جميع أجزاء البدن، فكذلك البناء التربوي التراكمي، عليه أن يكون فيه ارتباط بين جميع أجزائه، وهو أيضا يتصف بالمرحلية، فإذا كان هو مجموعة من الأجزاء في الوقت الواحد، فلا يمكن أن يكون في مدة معينة، وإنما في أوقات زمنية قد تستغرق سنوات عدة، بل قد يستغرق البناء التربوي التراكمي أحيانا عشرات السنين حسب طبيعة المرحلة..
فالمسلم ما دام حيا فإنه يتلقى التربية حتى آخر لحظة من حياته.
أما كلمة المؤصل، فنقصد بها ذلك البناء الذي يعتمد على أصول معرفية عريقة، يعتمد على الأصلين الشريفين الكتاب والسنة، وما استمد منهما من منهج السلف الصالح، فهو إذن بناء مؤصل قاعدته ضاربة في جذور عميقة في دلالتها ومنطلقاتها.
بهذه العناصر والأركان يكون البناء التربوي التراكمي المؤصل بناء، قاعدته أصيلة صلبة لا تزعزعها رياح كما بين المولى عز وجل في كتابه الكريم: {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء توتي أكلها كل حين بإذن ربها}(إبراهيم: 26- 27) ، وكما بين النبي في حديث ابن عمر ] قال: ( بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتي بجمار نخلة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن من الشجر شجر مثلها مثل المسلم لا يسقط ورقها، أخبروني ما هي؟” فوقع الناس على شجر البوادي، فوقع في نفسي أنها النخلة، فأردت أن أقول: هي النخلة، ثم نظرت فإذا أنا أصغر القوم سنا، فسكت. فقال رسول الله : “هي النخلة”، فذكرت ذلك لعمر، فقال: لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا) رواه البخاري ومسلم. فالحديث يدل على أن النخلة أشبه بالمسلم، والمسلم فيه شبه من النخلة، والنخلة تغرس غرسا قويا، وهي لا توتي أكلها فجأة كبعض البقولات، وإنما تستغرق سنوات من أجل الثمار، فهو تراكمي قاعدته عميقة.
وعلى ذلك لا يمكن أن توجد أمة من الأمم يتم بناؤها إلا بالتربية الجادة، بالتربية المؤصلة، فالتربية هي الأساس الذي تبنى عليه الأمم، والنبي عندما بعث أول ما بدأ به عندما بلغ ودعا إلى التوحيد سرا، كانت الوسيلة لتبليغ رسالة ربه وللقيام بالمهمة التي أنيطت به هي التربية، فبقي ثلاث سنوات وهو يربي الأمة في دار الأرقم سرا، وعندما كون جيلا صلبا -وإن كان عدده قليلا، ولكن التربية التي تلقاها كانت ضخمة ومؤصلة وقوية- هنالك أعلن دعوته، حيث وجدت الأركان والدعائم التي تبنى عليها الأمة، وتكون منطلقا للرسالة والدعوة والبناء.
ذ. عمر أجة