المال الرائج هو أساس القوة الاقتصادية
مهمة الزكاة تحريك المال
إن للزكاة مهمة تحريك المال وترويجه ولذلك فهي تفرض في المال، ولا تفرض على الشخص، وأن الذي لا يؤديها يحارب عندما تكون الدولة الإسلامية قائمة حتى يؤديها ولا يترك لهواه.
ثم إن النبي كان يوصي الصحابة بأن يتاجروا بأموال الأيتام حتى لا تأكلها الصدقة، وهذا أمر يمضي أيضا في هذا السياق وفي هذا الاتجاه.
الرسول من واقع فعله علّم الصحابة أن يتاجروا وأن يتحركوا في الأسواق، وكان يأذن بذلك وكان ينيب بعض الصحابة، وقد أناب أحد الصحابة وهو عروة بن الجعل، أنابه فأعطاه ديناراً، وأمره بأن يشتري له به شاة، فذهب هذا الصحابي فأحسن الشراء، وطاف في السوق جيداً، فاشترى بالدينار شاتين بدل شاة واحدة.
النبي توقع أن يكون هذا الدينار ثمن الشاة الواحدة، فأحسن الرجل الشراء فاشترى شاتين، ثم إنه باع إحدى الشاتين بعد شرائها، بدينار، فعاد بعد ذلك إلى رسول الله بدينار وشاة ولم ينكر عليه الرسول ، بل رحب به وقال : أربح الله صفقتك، ودعا له بالربح، وقال الصحابة : كان هذا الصحابي بعد ذلك لو تاجر في تراب لربح، ببركة دعاء رسول الله كان لو تاجر في أي شيء لحصل من ذلك ربحا، رزقا من الله تعالى وببركة دعاء النبي، وهذه أرزاق إلاهية يجريها الله تعالى على أيدي العباد. بعض الناس كانوا تجاراً وكانوا يرون أن أعمالا وتحركات من هذا القبيل تؤدي إلى نتائج ربما لا يصلها غيرهم، حتى يقال إن أحدهم كان يبيع ويشتري وكان كثير الربح، يربح دائما، في كل صفقة يكون دائما موفقا، حتى قال لأصحابه بعد أن جمع مالا : إنني أشتهي الخسارة، فقال له بعض الناس إن الأمر سهل، نصحوه بأن يشتري تمراً، فاشترى تمراً كثيراً وذهب به إلى الكوفة وهي بلاد التمر، طبعا إذا اشترى التمر بثمن غال وحمله إلى بلاد معروفة أصلا بالتمر فسيخسر ويذوق طعم الخسران، ففعل ذلك واشترى تمراً كثيراً ليخسر كثيراً، فذهب به إلى الكوفة، فلما ذهب به إلى الكوفة كان أن فسد تمر الكوفة كله في تلك السنة وربح أرباحا مضاعفة، بمعنى حتى تلك الخسارة التي تمناها لم يجدها.
إذن فهذه إشارة من رسول الله على أن يُتاجر، وكانت عائشة رضي الله عنها تتاجر ببعض أموال أبناء أخيها، وكانت ترسل تجارتها وأموالها إلى البحرين، هي في المدينة المنورة وكانت أموال القاسم بن محمد يتاجر بها في البحرين، وهي إشارة إلى أن الصحابة لم يكونوا خاملين ولا معرضين عن قضية الحركة وترويج المال، والشواهد على هذا من السنة كثيرة، ومن واقع فعل الصحابة وفعل رسول الله كثير.
إذن، حينما يقع هذا الترويج ونأخذ بهذا الفهم القرآني، أي لا نحب المال بمعنى أننا ندخله في قلوبنا، بل نعطيه وظيفته ونعطيه مهمته، ونتصرف به تصرفا عقليا، حينئذ سنكون قد وضعنا أرجلنا على أبواب نهضة اقتصادية حقيقية. إن هناك أمما في الأرض مختلفة ومتباينة، هناك أمم تؤمن بالرواج، وتؤمن بتحريك المال هذه الأمم ناهضة، وأمم تسيطر في نهاية المطاف، وهناك أمم أخرى بالمقابل، أمم مكتنزة، تحبس المال وتحبه وتجمده.
تجربة الاستكبار مع ترويج المال
لما دخلت شعوب كثيرة من الأوربيين إلى القارة الجديدة إلى أمريكا، كان أن دخل الانجليز ودخل الإسبان ودخل البرتغال ومن إليهم، لكن الانجليز كانوا إذا أتوا بشيء من ذهب القارة الجديدة، وكان الذهب موجوداً في أمريكا في جهات كثيرة، وربما كان يلتقط من الأنهار، كانوا إذا جاؤوا بشيء من الذهب جعلوه سبائك ذهبية وغيرها وباعوا فيه واشتروا، وصاروا بعد ذلك أمة متاجرة وبنوا أسطولا عظيما وسيطروا على الدنيا، وبلغ بهم أن أمبراطوريتهم كانت لا تغرب عليها الشمس، إمبراطورية انجليزية عظيمة جداً بسبب الرواج الاقتصادي وبسبب اختلاط هذه الوظائف. المال من جهة، والقوة العسكرية والخبرة بطرق البحر، وصارت هذه الأمة أمة مسيطرة، وسيطرت على كثير من البلاد الإسلامية، وممالك إسلامية مهمة، ووجدناها في الصين ووجدناها في الهند، والهند يوما ما كانت فيها مملكة إسلامية معروفة.
إنهم نفذوا رغباتهم ونفذوا شهواتهم وما شاؤوا، وأنشأوا أجيالا تدين لهم بالولاء إلى غير ذلك من الأشياء التي فعلوها بسبب رواجهم الاقتصادي.
على العكس من ذلك، الإسبان -وكانوا جيرانا لهم- كانوا متمسكين بتقاليد جوفاء وكانوا كلما أخذوا شيئا من الذهب جعلوه تماثيل وصنعوا منه كنائس صغيرة، وصاروا ينظرون إليه ورصعوه بالجواهر واليواقيت. الآن لو زار أحدكم إسبانيا لوجد فيها الشيء العظيم من المال، ولكنه مال مكدس، فكان أن الإسبان بقوا حيث كانوا ولم تظهر لهم نهضة اقتصادية في مقابل الذين تاجروا.
نتائج تغيي المنهج الاقتصادي الاسلامي
إذن الأمة الإسلامية مطلوب فيها أن تتاجر وأن تروج.
إن الإسلام حين أراد لنظرية الإنفاق أن تتحقق، حفها ومهد لها بجميع الأحكام التي تؤدي إلى هذه النهاية، فحرم الإسلام اكتناز الذهب والفضة حيث لا يجوز للرجال -مثلا- اتخاذ الذهب والفضة بإجماع. وهذا الذهب لا يجوز اتخاذه في البيوت لا للرجال ولا للنساء أواني، لا يجوز اتخاذ إناء ذهبي، ولا صحفة ذهبية يؤكل فيها ولا شيء من هذه الأشياء، بل لا يجوز تضبيب إناء، إذا وجد إناء منكسر، لا يجوز تضبيبه ولا جمعه بقطعة من ذهب، لماذا؟ لأن الذهب له دور آخر ومهمة أخرى يجب أن يؤديها. ومثله كذلك الفضة، والفضة قد كانت يوما ما عملة.
إذن، هذا يعطينا أن الإسلام لا يريد للناس أن يقعوا في هذه الورطة التي هي ورطة حجز الذهب وكنزه ومنعه، لأن الذهب هو روح الحياة الاقتصادية، وهو نقد يجب أن يستعمل في مكانه، إذن هذا يمضي مع هذه النظرية التي نسبها الناس إلى أبي ذر -كما رأينا في العدد السابق-لكنها هي نظرية عامة، بل هي توجيه إسلامي وليست نظرية خاصة بأبي ذر.
وحرم الإسلام كل أنواع تحجير الأشياء النفيسة التي تودع فيها أموال كبيرة، ومنها الحرير، إذ الحرير شيء ذو ثمن، فبالإضافة إلى أنه يعود الترهل والتنعم والترفع، الإسلام يمنع الناس من اتخاذه، ويمنع الرجال خصوصا من اتخاذه إلا في حالة قصوى كالمرض. إذن فالإسلام أراد للناس أن يحركوا هذه الأموال وأن يديروها، ليس فقط إعطاؤها في شكل صدقات، المهم أن يتاجروا بها وأن ينشطوا تلك الأموال لتعود عليهم بالفائدة.
فحينما غاب الناس عن هدي الإسلام، وعن فهم الإسلام على أساس أنه نظام اقتصادي فاتهم خير كثير، ووقعوا في عملية اكتناز أو جمع وتكديس للأموال بغفلة شديدة، أي شعوبنا الآن شعوب في الحضيض، اقتصاديا متخلفة، لكن المال عندنا، يكتنز ويجمع ويدخر ويحبس حبسا، وتعطل بذلك الحركة الاقتصادية، ترون الأطفال الصغار، وهناك متسولون يجمعون الأموال وعندما يموتون يُكْتشف أنهم كانوا يكدسون أموالا كثيرة، لم يكونوا يروجونها ولكن كانوا يخفونها، هذه الأموال كانت حظوظا لكثير من الشباب ليتحرك بها، أبداً حبسوها، إذن هذا الإنسان الفقير استطاع أن يمنع عن الأمة منعهم هذا المال وحبسه، وكأن هذا المال لم يكن موجوداً، هذه قيمة نقدية حبسها إنسان ضعيف، فكيف يكون شأن الكبار الذين يمتلكون الملايير، إنهم يفعلون هذا الفعل نفسه، ولكن بكيفية أشد وأنكى وأضر، إنهم يأخذون الأموال الطائلة ويخبئونها ويركنونها في جانب ويخفونها، ويمنعونها من الرواج، بل إن بعضهم يختار أن يخفى ماله ويظهر الفقر وهو غني حتى لا تطالبه الدولة بضرائب جديدة.
إن كثيراً من الأغنياء لا يتاجرون بأموالهم، إن كثيراً منهم أغنياء فقراء، أغنياء لأنهم إذا قاموا إلى مشروع اقتصادي استدانوا من البنوك وهم في حقيقتهم يملكون أضعاف ما تقرضهم البنوك. كل هذا ليتهرب من الضرائب ويظهر أمام الدولة بمظهر المدين، فترتفع عنه الضرائب. وإذا سنحت لهذا الإنسان سانحة، فإنه يأخذ المال أخذا ويكدسه في بنوك أجنبية، لأن هناك أمناً، حتى أصبحت بعض البنوك في سويسرا خصوصا- لا تستقبل الأموال، عجزت عن استقبال الأموال، بل إن بعض بنوك سويسرا أصبحت تطالب الأغنياء بأن يعطوا أجرة لإبقاء أموالهم عندها.
فهل يمكن لأمة بهذا الشكل أن تفعل شيئا، إنها أمة بدون أجنحة ولا قوة، ودولنا قوية وضعيفة في نفس الوقت، قوية لتوفرها على الأموال الكثيرة، وضعيفة لأن كل أموالها عند الغرب، وعندما يضع أفرادها أموالهم في سويسرا، فهذه الأخيرة تقدمها لمصانع السلاح الاسرائيلي وللشركات البريطانية وغيرها.