لقد رزئت المعارف العلمية بعامة، والأدبية بخاصة، بموت أحد الأعلام البارزين، والأساتذة الأفذاذ المرموقين، إنه الدكتور عبد الله الطيب، من أهل السودان الجنوبيين.
ها أنا أقول لكم صادقا، إن مدح الأموات والبكاء عليهم ليس من شأني، ولكنني إذا ذكرت خصاله حملتني على تأبينه والبكاء عليه، خصالا تتدافع في شهيق لتبكي نفسها بموته، وضياعها بفنائه.
كان البروفسور عبد الله الطيب رحمه الله لَقِنا ذكيا، فطنا لبيبا، دمْثَ الأخلاق، حلو الحديث لذيذه، ثاقب الرأي سديده، راجح العقل رزينه.
… لقد كنتَ لطلابك، مغربا ومشرقا، “وأنا منهم، وما افتخرت بشيء مثل فخري بهذا”، خير أستاذ، وأفضل معين وملاذ، كنتَ لهم منهل علم لا ينضب، ومصدر معرفة لا يجف ولا يفتر، لك في مؤلفاتك عامة وفي محاضراتك خاصة، فهم صائب، ورأي ثاقب، وقول محكم سديد. تقدم لهم أطباقا شهية من المادة الأدبية، مُوَشَّاةً بغُرر بيانك، ومُرصَّعة بنسائم أخلاقك، وجميل تواضعك، فلم يكن غريبا أن يتهافتوا عليك ليحضوا بحسن توجيهك، ونبل مقصدك، في شرف إشرافك على بحوثهم ورسائلهم الجامعية، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، ولكنك كنت لهم مرشدا ناصحا، في غير فظاظة، ومعلما كفؤاً مخلصا في غير كزازة، فلمن تكلهم بعدك ؟ ومن ذا يسد مكانك أو يملأ فراغك ؟
ستبكيك أخلاق المروءة إنها
مغيبة مادمت عنهن غائبا.
كان رحمه الله لا يُمل معه الثَّواء، والجلوس إليه ساعة أفضل من حَوْلٍ إلى غيره. كنتُ أزوره في بيته وأقضي معه وقتا طويلا، أسأله سؤالا، أو أستوضحه عن أمر انْبَهَمَ عليَّ في البحث،فيسترسل في الحديث ويُمطرني بوابل من الدرر والمعارف والنوادر، ما كنت أهتدي إليها حتى لو قضيت شهرا لا أريم في مكتبة عامرة. كان إذا أخذ في موضوع لا يتوقف لغزارة علمه، وقوة ذاكرته، وحضور بديهته، ويقع منه هذا أبدا في دروسه التي كان يلقيها علينا في الدراسات العليا، وكانت تبتدئ من التاسعة صباحا، وتمتد حتى الثانية عشرة ظهرا، إلا أنه كان يتجاوزها بوقت طويل، ننتشي نحن الطلبة بفيض العلم والمعرفة، وبسحر اللغة والبيان، ولا يقطع عنه حبل الاسترسال إلا ظهور زوجته خلف زجاج الباب تدق في لطف واستحياء.
كان رحمه الله إذا حاضر أفاد وأشبع، وإذا تكلم أجاد وأقنع، يحرص كل باحث ومهتم بالأدب والثقافة العربية على حضور مناقشاته العلمية للرسائل والأطاريح الجامعية لينهل من فيض علمه وحوض معرفته، ينطلق من رسالة الباحث ليحاضر ويفيد الجمهور،وكان أَلْمَعِيّاً ذكيا، يُمرر ما يريد من الملاحظات والانتقادات دون أن يخدش الكرامة، ودون أن يتفطن إليها أحد، ما عدا الطالب الباحث إن كان متابعا نبيها.
لازمتُه رحمه الله لأوقات تمنيت لو كانت طويلة، فتنسمت فيه رائحة الخلق الكريم، ومروءة العربي الصميم، وعزةنفس الشهم العظيم.
كانت الابتسامة الصادقة الصافية تملأ محياه، وأَلَقُ النَّجابة والذكاء يُشِعُّ من عينيه، وعبارات التقدير والمحبة تنطلق من شفتيه.
فرغم مقاومته للمرض وتحديه له مدة في صمت وخشوع، فقد انتهت به المغالبة إلى ميناء الموت بعد أن تكسرت مجاديف سفينة حياته الهادئة الوديعة على شاطئ صخرة الموت العاتية.
نسألك اللهم أن تجعل روحه الطاهرة تسعد وتسرح في العليين، بين تيجان السرور، وأكاليل الزهور، وباقات العطور، وهالات النور، وكنوز الدر المنثور، وأن تسكنه فسيح جنانك، وتغفر له بمنك ونولك، وتلهمنا وجميع محبيه الصبر والسلوان، وتُوَرّثَ سره وبركته طلابه ومريديه يا رحمان، إنك على ذلك قدير وبالإجابة جدير، إنا لله وإنا إليه راجعون.
د.سعيد الأيوبي