استضافت إحدى القنوات رجُلاً عربيا كان معارضاً لحكم عربي فسُجِن نحواً من ثمانِ سنوات بدون أن تُوجَّه له تُهمة معلومة محددة، أو تُعْقَد له محاكمة مضمون له فيها الجهر برأيه والدفاع عن حقه، أو يُجْرى معه تحقيق نزيه، وإنّما يُعذَبُ كما يُعذَّب كل رفقائه المسجونين تعذيبا تعبُّدياً يتولاّهُ الجلاّدُون في أوقات معلومة لا تتخلَّف، ولا يُْعْذَر فيها أحَدٌ، فطقُوسُ التعذيب تؤدّى كما تؤَدَّى العباداتُ بدون مناقشةٍ ولا تساؤُلٍ.
ولقد حكَى أنواعاً كثيرة من العذابات المُهِينة لكرامة الإنسان سواء في الأكل أو أوضاع النوم الكريهة، أو التحكم حتى في أوقات قضاء الحاجات.
ولكنّه حكى عنْ أغْرَبِ عذَابٍ كان يتَلَقّاهُ إنْسَانٌ معَهُمْ في الرفْقَة، فقد كان هذا الإنسان مريضا بالتبوُّلِ الكثير، لم يعْرف هو سببَه، ولا عرف المريضُ سبَبَه، ولا بُحِث فيه، ولا أوتِي له بطبيب، ولا سُمح له بالمُعَالجة.
وكان القانون يفْرِضُ على كل من خرج للخلاء خارج الوقتِ المسْمُوح به يُضْرب كذا وكذا من الضّرَبَات بأقفالٍ حدِيدِيّة مربوطة في سلاسل حدِيديّة.
يقول هذا المسجون المعارِضُ إنه طيلة هذه المدّة التي رافق فيها هذا المريضَ بالتبوُّل كان يراه يخرُج للتبوُّل في أوقاتٍ اسْتِثْنَائِيّة فكان يتلقَّى تلك الحصّة من الضرْب مقابل خروجه في غَيْر الوقت المُعتاد، بدون لا شفقة ولا رحمة، ولا قبُول عُذْرٍ، ولا رَفْع أمْرِه للسُّلْطاتِ العليا لتنظر إلى حالِه، وتعْمَل على عِلاجه. ضرْب تعبُْدي غير خاضع لا لشرع ولا عقل ولا عُرف ولا قانون.
فهل هذا يقع في بلاد الكُفر لمواطنيهم؟! وهل تُكَمَّم الأفواهُ في بلادِ الكفر إلى درجة أن تَمْنَع مواطنيها من الشكوى ونشْر الظلم في الجرائد والمجلات ومنظّمات حقوق الإنسان؟!
هل هذهالصورة، وصورٌ أخرى كثيرةٌ هِيَ أفْظَعُ وأخبثُ قد قِيلتْ ونُشِرَتْ وكُتبت حتى صار الرأي العام الحر في بلاد الأحرار يعتقدون أن بلاد الشعوب الإسلامية عبارة عن سجن كبير للإنسان المُهدَر الحقوق والكرامة.
هل هذه الصّور التي تقع في بلاد المسلمين على يد مَنْ يُسمُّون أنفُسهم مُسْلمين تُعْطي الصُّورة الحقيقية للإسلام؟! الناس إذا رأوا الإسلام على هذا الشكل -ولوْ كانوا مواطنين- يقُولُون الكفْر أحْسَن من هذا الإسلام، لماذا؟! لأن أمثال هؤلاء يشوِّهُون صورة الإسلام، ويجعلون الناس تنفُرُ من الإسلام. بل يجعلون أهل البلد المهانين المجوّعين من الجهلاء يتنَصَّرون ليس اقتناعا ولكن فراراً من الجحيم الفقري والذلي.
فهل الإسلام يوافقُ على هذا؟! وهل رسول الرّحمة بُعث بهذا؟!
الإسلام يقول في تكريم الإنسان -مطلق الإنسان- قولا صريحا، واضحا، لا يحتاج لشرح أو بيان، ولا يتحمَّل تأويلاً مُغرضاً، أو فهْماً سقيما، قال الله تعالى : {ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وحَمَلْنَاهُمْ في البَرِّ والبَحْرِ ورَزَقْنَاهُم مِن الطَّيِّبَاتِ وفضَّلْناهُم على كَثِيرٍ ممَّنْ خَلَقْنَا تفْضِيلا}(الإسراء : 69).
فأين يظهر تكريم الله عز وجل للإنسان تكريما ليس فوقه تكريم؟؟
يظهر في مواضع لا حدَّ لها ولا حصر، نذكر منها -في هذه العجالة- ما يأتي :
1) خلقه في أحْسَن صورة وأحْسَن تقويم.
2) علَّمَهُ النطق والبيان {خلق الإنْسان علّمه البَيَان}.
3) أوْدَعَهُ العقل الذي هو مناط التكليف، وسرُّ التسخير، وأساس تحمُّل المسؤولية، وتحمُّل تبعاتها.
4) علَّمَهُ ما لم يكن يعْلمُ عن طريق منافذ العلم {واللَّهُ أخْرَجَكُمْ مِن بُطُونِ أمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُون شَيْئاً وجَعَل لكُمُ السَّمْعَ والأبْصَارَ والأفْئِدَةَ لعَلَّكُمْ تَشْكُرُون}(النحل : 77)، فبفضل هذا العلم الممنوح فضلا من الله ورحمة تمكن الإنسان من شق الأمواج والبحار، وامتطاء الفضاء، واختراق الآفاق.
5) أكرمه بإرسال الرسل ليعلموه ما غاب عنه مما ليس خاضعاً للمحسوسات السمعية والبصرية واللمسية.
6) أكرمه بالحرية المطلقة في تقرير مصيره {فمَنْ شَاءَ فلْيُومِن ومَنْ شَاءَ فاليَكْفُرْ}، ليعاقَب بحجة وبرهان، أو يُنعَّم بحجة وبرهان أيضاً.
7) وفَّر له مُقومات العيش بقطع النظر عن انتمائه الديني وطاعته لله عز وجل أو عصيانه، بل لمجرد أنَّهُ إنسان {كُلاًّ نُمِدُّ هَؤلاءِ وهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ومَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً}(الإسراء : 19).
8) وفَّر له العَدْل المطلق بصفته إنساناً {ولاَ يجْرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى ألاَّ تَعْدِلُوا}(المائدة : 7).
إن الإسلام يمنَعُ منعاً كليّا اتهام الإنسان بجريمة حتّى تثْبُت عليه، ولا ثبَات للجريمة إلا بشهودٍ وبيِّنَةٍ وقرائِن، فالأصل فيالإنسان البراءة، أي أن الإنسان بريء حتّى تثبُت إدِانَتُه، وليس العكس؟! هذه هي الكرامة، والإنسان لا يُدانُ ولا يُحاكم ولا يُعاقب على نواياه، فالرسول يقول : >أُمِرْتُ أن أحْكُم بالظّاهر واللّه يتَولّى السَّرائر<.
9) وإذا ظُلم الإنسان أعطاه الله الحقَّ في الدِّفاع عن مظْلَمَته بأي الطرق التي يَراها كفِيلةً بإزالة الظلم عنه {لا يُحِبُّ اللَّه الجَهْرَ بالسُّوءِ من القَوْلِ إلا مَن ظُلِم وكان اللَّه سَمِيعاً عَليماً}(النساء : 147) وإذا لم يُنْصِفه الإنسان في الأرض فبَابُ السماء مفتوحَةٌ أمامَهُ ليرفَع شكواه لرَبِّ العالمِين >فَدَعْوة المَظْلُوم ليس بيْنها وبين اللّه حجابٌ< بل قال ، في الحديث القدسي >وعزّتي وجلالِي لأَنْصُرَنَّك ولَوْ بَعْدَ حِينِ< بل رب العزة يقول في الحديث القدسي أيضا : >يَا عِبَادِي إنِّي حرَّمْتُ الظُّلمَ علَى نَفْسِي وجَعَلْتُهُ بيْنَكُممُحرَّما فلا تَظَالَمُوا<.
إن العدل في الإسلام حقٌّ لكل إنسان مُسْلِماً كان أو كافراً، قريباً كان أو بعيداً {كُونُوا قوَّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ للّه ولوْ عَلَى أنْفُسِكُم أو الوَالِدَيْن والأقربِين إنْ يَكُن غَنِيّاً أو فَقِيراً فاللَّهُ أوْلى بِهِماَ فلا تتّبعوا الهَوَى أن تعْدِلُوا وإن تَلْوُوا أو تُعْرِضُوا فإنّ اللَّه كان بما تعْملُون خبِيراً}(النساء : 134)، {لاَ ينْهَاكُم اللّه عن الذِين لم يُقَاتِلُوكُم في الدِّىن ولمْ يُخْرِجُوكُمْ من دِيَارِكُم أن تَبَرُّوهُم وتُقْسِطُوا إِلَيْهِم إنّ اللَّه يُحِبُّ المُقْسِطِين}(الممتحنة : 7).
فمِن أيْنَ يغترفُ المجرمون الذين يتَسلّطون على الإنسان بغيْر حقّ؟؟، من الإسلام؟! الإسلام بالحق والعدل نزل {لقَدْ أرْسَلْنا رُسُلنَا بالبَيِّنات وأنْزَلْنا معهُم الكِتابَ والمِيزانَ ليَقُوم النّاسُ بالقِسْطِ}(الحديد : 24) هل يغترفون من القوانين الفطرية السليمة؟! إن القوانين الدولية والمحلية كلها تدّعي أنها للعَدْل شُرعَت؟!
إن هؤلاء يغترفون من أهوائهِم ولذلك سلَّط الله عليهم من يعلُّمُونهم القانون الإنسانِيّ والحقوق الإنسانية، حيْثُ كذبُوا على الله وعلى الرسول وعلى التاريخ وعلى الإنسانية وقالوا إنهم مُسْلمون والإسلام جاءَ لمَحْو التسلُّط {ألَمْ ترَ كَيْفَ فَعَل ربُّكَ بعادٍ إِرَمَ ذاتِ العِمادِ التِي لمْ يُخْلقْ مِثْلُها في البِلاَدِ وثمود الذِين جَابُوا الصّخْر بالوَادِي وفِرْعَوْنَ ذِي الأوتَادِ الذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ فأَكْثَرُوا فِيها الفَسَادَ فصَبَّ علَيْهِم رَبُّك سَوْطَ عَذَابٍ إنّ رَبَّك لَبِالمِرْصَادِ}(الفجر : 5- 13)..
فما هو دستُور الإسلام في تقْرِير الكرَامَة الإنسانية بكل جِدٍّ وصَرَامة؟! دستورُه هو :
>كُلُّ المُسْلم على المُسْلم حَرامٌ دَمُه ومالُه وعِرْضُه<، >المُسْلِم أخُو المُسْلم لا يَظْلِمُه ولا يَخْذِلُهُ ولا يكْذِبُه، ولا يحْقِرُه<(رواه مسلم)، {إنّما المُومِنون إخْوةٌ فأصْلِحُوا بَيْنَ أخَوَيْكُم}(الحجرات : 9).
بناءً على هذا الدستور، فلا سخرية ولا استهزاء بالمسلم، ولا لـمْز له أي الحَََطَّ مِنْ قَدْرِهِ، ولا نَبْزله بلقبٍ لا يُحِبُّ أن يَسْمعه، ولا تجسُّسَ عليه، ولا اغتيابَ له أي ذكرُه بما يكره في غَيْبته، ولا كذِب عليه، ولا تحرُّش به، ولا نَمِيمَةَ لإفْسَادِ العلاقة بين الأقاربِ والأصْدِقاءِ، بلْ ولا حتَّى أن تُسِيءَ الظنّ به، {يا أيُّها الذين آمنوا لا يَسْخَر قوْمٌ من قوْمٍ…}(الحجرات : 10).
إذا فَهِمْنا هذا، فهل يجوزُ تجويعُ المُسْلم أو ظلمُه أو سجنه بغير حق؟! أو التعدِّي على مالِه أو عِرْضه وشرفِه بغير حق؟! وهل يجوزُ أن تبيعَ له الخمرَ والحَشِيشَ والدّخانَ لإفْسادِ عقْلِه وصحَّتِه ودينه ومالِه وعِرْضِه؟! هل يجوز أن تُرْتكب في حقه الجريمة المضاعفة الإثم؟! وهي أن تأخذ الرشوة منه وهي حرام؟! لتجعله يأخُذُ حقُوقَ الغَيْر وذلك حرام؟! ولإفسادِ ذمته وإفسادُها حرام؟! ولجعله يساهم في تفشي الجريمة وإشاعتها بين الناس وذلك حرام؟!.
فهل هذا الظلم والفساد هو الدين الذي جاء به محمد رحمة للعالمين؟! وهل هو الرِّسَالة التي تُبيّضُ وجْهَنا بين الناس في الدّنيا والآخرة؟!.
10) قال تعالى : {إنَّ الذِينَ يُوذُون اللّه ورسُوله لَعَنَهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهِيناً}(الأحزاب : 5) ثم قال : {والذين يُوذُون المُومِنِين والمُومِنات بغيْر ما اكْتَسَبُوا فقَد احْتمَلُوا بُهْتَاناً وإثْماً مُبيناً}(الأحزاب : 56) فقد عطف إذاية المومنين على إذاية الله وذلك تكريم ما بعده تكريم، ثم قال : {إنّ الذِينَ يُحِبُْون أن تَشِيع الفاحِشَةُ في الذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ فِي الدُّنْيا والآخِرة}(النور : 18) فمجرد إشاعة الفاحشة إهانة..
11) يمكن أن تحُومَ شبهةُ ارتكاب الفاحِشَةِ حَوْلَ امرأةٍ أو رَجُلٍ فيجِبُ على الذي رأى ذلك وحْدَه السَّتْرُ >مَنْ سَتَرَ على مُسْلِم ستَرَهُ الله في الدُّنْيا والآخرة<. فإذا تكلم بدون بيِّنةٍ فعقوبتُه الجَلْدُ والتجريدُ من الأهلية والحقوق المدنية {والذِينَ يُرْمون المُحصناتِ ثم لم يَاتُوا بأرْبعة شُهدا فَاجْلِدُوهم ثَمَانِين جَلْدة، ولا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادةً أبداً وأُولئِك هم الفَاسِقُون}(النور : 3).
12) حتى المرأة التي زنَت واعترفت بفاحشتها ورضيت أن تعاقَبَ لا حَقَّ لأحدٍ في شَتْمِها أو سبِّها أو لعْنِها، بل يجبُ أن تُعَاقَب بكرامةٍ، فقدْ عاقبَ الرسول الغامدية ورجَمَها وعاتَبَ من لعَنَها، وصلَّى عليها، وعندما قال له عمر : أتصلي عليها وقد زنت، قال المرسول رحمة للعالمين : >لقد تَابَتْ توبةً تَسَعُ سبعين من أهل المدينة< لماذا؟ لأنها جادت بنفسها للتطهر من هذه الجريمة خوفاً من لقاء الله عزوجل بها.
13) جاء رجل أعرابي وبال في المسجد فقام إليه الناس تقريعا وتوبِيخاً ولكن المرسول رحمة للعالمين قال لهم : لا تزرموه، أي لا تقطعوا بوله، وبعد أن أتم بوله قال : أريقوا عليه سجلا من الماء.
14) ضُرِبَ الرسولُ وأُوذِي وأُهِينَتْ كرَامَتُه عند خروجه من ثقيف إهانةً لا مزيدَ عليها، وعند ما اشتكى إلى الله عز وجل ونزَل إليه ملك الجبال ليقول له : أنا طوْعُ أمْرك، إن شئتَ أطبقتُ عليهم الأخشَبَيْن؟! هل انتقَم لِنَفْسِه تشفِّياً وشماتَةً في هؤلاء الأعْدَاءِ؟!
كلا، ولكنه قال : استأنى بهم، وأرْجُو من الله أن يُخْرجَ من أصلابِهم ذُرّية صالحة.
إنه الرسول المُرسَلُ رحمة للعالمين لتكْرِيم الإنسان وتحبيب الله العلي العظيم إليه وجرِّه للطريق المستقيم من قلْبه وعقْله وعواطِفِه ومشَاعِره حتّى يَشْعُر الإنسانُ أنه كريمٌ على الله عز وجل كريم على دينه، كريمٌ على نبيّه.
هذه مجرد نقطة من بحر في تكريم الإسلام للإنسان فما بال قومِنا متأرجحين بين أمرين :
أ- إما بأمر ضرب الإسلام باسم الإسلام، أو إذلال الإنسان باسم الإسلام، أو ظلم الإنسان باسم الإسلام.
ب- وإمَّا بالمناداة الصريحة لسلخ المسلمين عن إسلامهم بدعوة تحريرهم، وهي دعوة لا تعدو أن تكون إلا دعوةَ إنقاذ من الفساد إلى الأفسد، ومن الفَلَس إلى الأفْلَس، ومن التلف إلى الأتْلَفِ، وقد ضرب القدماءُ المثَل لمِثْل هذا العلاج الأهوج، فقالوا: >كَالمُسْتَجِيرِ مِن الرَّمْضَاءِ بالنَّارِ<.