عجيب أمر هذه الأمة الصامدة، فرغم المحن والفقر والإحباطات والآلام، رغم التضييق والخنق من كل جانب، رغم الإخفاق والعجز عن تقديم قنوات مسعفة على الاستجابة للرؤى الشرعية ، والتخاذل عن الانضباط بقيم الإسلام ، فإنها تعلن انتسابها إلى الإسلام مهما كانت الظروف. ومع هذا الانتساب والصمود تزداد شراسة التشرذم والفرقة وغبش الرؤى ،وألوان شتى من الإحباط والانسلاخ . وتتناسل مختلف العبوديات التي لا تكاد تترك للأمة متنفسا للحرية. ونكتشف كل حين أن الانتساب وحده لن يجدي هذه الأمة نفعا، وأن ترميم ما يتصدع وينهار، لن ينفع . إنما الأمر يحتاج إلى مواجهة الذات الفردية {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم}(يوسف :53) ، يحتاج إلى تصحيح أسس البناء ودعائمه، والتعجيل بالتوبة الفكرية والسلوكية ،من خلال التمثل الواعي لرسالية القرآن ، وانتشال النفس من السقوط الذي حذر منه رسول الله في قوله تعالى {وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا لقرآن مهجورا}(الفرقان :30)، وضبط سلوكياتها وفق إيقاعه وقيمه مهما كانت الظروف، ومهما سطا الواقع، والاستجابة لقوله تعالى : {خذوا ما أتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون}(البقرة :63). ورحم الله ذ. عمر عبيد حسنه حياً وميتاً حين قال:”تحول القرآن في عصر التخلف والتقهقر والتراجع الحضاري، من شفاء العقول والصدور وتصويب الرؤية وإصلاح عالم الأفكار إلى الاقتصار على الحركة في ساحات المرضى والمصابين، وتحول من مجالات التدبر والنظر والحض على التبين وبعث الحياة وإقامة العمران وتطوير الإنسان إلى ساحات التلاوة على الأموات، واستمرار الجدل حول مشروعيتها من عدمه، دون أن ندرك أن معظم الأمة هو في حالة موات في تعاملها مع القرآن”.
إن هذ التحول لم يأت فجأة ، وإنما شيئا فشيئا، وكذا التخلف والهوان وكل ما أصاب الأمة، أخذ مواقعه في كل أماكن التحول رويدا رويدا، ولن تنسحب منه إلا إذا أخذ القرآن مكانه الطبيعي في أنفسنا. وليس ذلك صعبا أو مستحيلا، لأن الأمة فعلا منتسبة لهذا القرآن، ولا ترضى عنه بديلا مهما كانت المغريات، ومهما اتسعت الجبهات أو الضغوطات، وليس عليها سوى أن تعيد ترتيب استعداداتها الفطرية والمكتسبة لتتناغم مع المنهج القرآني، وتضبط النفس على موجات دلالاته، وتعيد تفعيل العبادات من مجرد حركات أو واجبات، إلى سلوك يومي ينسحب على العلاقة مع الله سبحانه وتعالى ، ومع كل أفراد المجتمع والأمة ، والإنسانية جمعاء، صدقا وعدلا وإخلاصا وعلما وعملا..
دة.ام سلمى