بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة التي أعقبت حقبة الحرب الساخنة ظهرت حقبة أخرى بحروب ساخنة جديدة بين قوة بارزة مُجَيَّشة وذات أساطيل جوية وبحرية، وعتاد دقيق الصنع، وشديد البأس وبين قوة عقدية واسعة الانتشار وقوية التأثير في الناس، إنه صراع الحضارات عند البعض، وصراع على مصادر الرزق عند البعض الآخر، وصراع الحق والباطل عند فريق ثالث. وقد تتعدد التسميات ولكن يبقى المسمى واحدا. إنه صراع حقيقي له تجليات عديدة، فما حقيقة هذا الصراع؟
إن صراع اليوم بين أكبر قوة مادية عالمية تتبنى أضعف عقيدة وبين أضعف قوة مادية تتبنى أقوى عقيدة يعود إلى عهد غابر في التاريخ، حيث قضت السنن الكونية بظهور هذا الصراع بمجرد وضع الأمور في غير موضعها الطبيعي وهو ما يصطلح عليه اجتماعيا بـ”الظلم”، ذلك أنه حينما تهيمن قوة طاغية على الأمور وتحاول إخضاع الناس لمنطقها، يندلع مثل هذا الصراع، حتى ترسخت القناعة بأن هذا الصراع “حتمية تاريخية”. ومن العجب أن تنهار القوة المادية أمام القوة العقدية في نهاية المطاف ووراء ذلك سر لا محالة.
إن القوة الظالمة المتفوقة ماديا تواجه ضعفا ماديا، وهو عبارة عن قوة عقدية معنوية بحيث يغيب عن وعي القوة المادية المهيمنة أنها تواجه في الحقيقة قوة أكبر منها بمنطق المادة نفسه، لأن خالق هذا الكون القوي قضى بتحريم الظلم أي بوضع الأمور في غير محلها الطبيعي. فمهما قيل عن هذا الصراع في هذا العصر فإنه لا يعدو صراع كل عصر ومصر، لأنه صراع بين حق وباطل لا يجتمعان.
فقد تتغير الظروف والوسائل والأساليب في هذا الصراع ولكنه يبقى نفس الصراع، لهذا فمن العبث، ومن إهدار الوقت بلا طائل في باطل البحث عن مبررات لهذا الصراع، وهو صراع مكرور معاد. وقد يحتار الحليم أحيانا في منطق هذا الصراع باعتبار أطراف الصراع قوة وضعفا، فمعادلة هذا الصراع تحيل على مجالين مختلفين، مجال المادة ومجال الروح.
إن نقطة صراع هذا العصر تعود إلى عنصر الدين والتدين، وهو عنصر كان عبر التاريخ وراء الصراع بين طائفتين بشريتين : الأولى تدين للعدل والثانية تدين للظلم، باعتبار العدل وضع الأمور في مواضعها، وباعتبار الظلم وضع الأمور في غير مواضعها. وعند التأمل والتدقيق يبدو هذا الصراع في الحقيقة بين خالق جلت قدرته وبين مخلوقات خارجة عن طاعته.
قد لايجا دل أحد في تجلي الصراع بين طائفتين بشريتين، ولكن ذلك لا يعني غياب الخالق في هذا الصراع، وهو صراع فيه غالب واحد لأنه لا غالب إلا الله. قد تخسر الفئة المستضعفة العديد من المعارك في مواجهة الفئة المستكبرة، ولكن يكون النصر حليفها في نهاية الحرب، فهي فئة الغالب بالضرورة، وكأنها مجرد وسيلة لقيام هذا الصراع، صراع الطاعة والعصيان.
وإذا ما كان مصدر هذا الصراع هو الدين فما حقيقة الدين؟
إن المادة اللغوية لكلمة “دين” تدخل ضمن تركيبتها مجموع كلمات ومصطلحات تصل حد التناقض، ذلك أن الدين يعني الطاعة والمعصية، والعزة والذلة في نفس الوقت، ولا يمكن فهم الدين إلا من خلال ثنائية الخالق والمخلوقات، فالخالق سبحانه ديان بما للكلمة من دلالة على القهر والحكم والقضاء والسياسة، والمخلوق ديِّن (بتضعيف الياء) بما في الكلمة من دلالة على العبودية والذلة والطاعة من جهة والعصيان من جهة أخرى. فالدين إذن باعتبار الخالق حكم وقضاء وقهر وسياسة، وباعتبار المخلوق إما ذلة وخضوع وطاعة وإما عصيان. والصراع بين الحضارات والذي هو صراع ديني هو إذن عبارة عن قبول أو رفض لحكم الله. ولما كان الدين قضية، كان لا بد له من قضاء، وقضاؤه مؤجل ليوم تسمى باسمه وهو يوم الدين، ويوم الدين هو يوم الحساب أو يوم المحاسبة بين ديان وديِّن (بتضعيف الياء) أو متدين، وهو يوم يسترد الدائن دينه من المدين، ويوم يدان فيه الدون بما للكلمة من دلالة على الضعف والحقارة والخسة والتحتية.
إن ما يسمى صراع الحضارات هو في الحقيقة صراع دين وتدين وهذا يعني أن الوجود البشري على سطح هذا الكوكب لا مندوحة له عن التدين وعن الدين، فالإنسان إما أن يكون ديِّنًا لديانه وإما أن يكون ديِّنًا لغير ديانه، فالقضية أساسا قضية دين سواء تعلق الأمر بالطاعة أم بالعصيان، وحتى الصراعات والحروب التي يعزوها التاريخ إلى مختلف الأسباب هي في الحقيقة صراعات وحروب دينية بالمفهوم الذي قدمناه، وهو الانصراف عن دين الديان إلى دين الأهواء، وهو بتعبير آخر حلول الظلم محل العدل، فكل تغيير يروم حكم الديان هو وضع للأمور في غير ما وضعت له في الأصل.
فصراع حضارة الغرب مع الإسلا م يعود إلى أمر ديني صرف هو محاولة تغيير معالم أرض إسلامية هي أرض الإسراء، وهي قضية جوهرية في دين الإسلام، وهذا التغيير هو قضية التهويد وهو الشرارة القادحة لصراع العصر.
إن هذا الصراع لا يمكن تجاوزه عن طريق أطروحات الحرب والسلام بين طائفتين، والتي تختزل القضية في أمور جغرافية أو طبوغرافية أو ديموغرافية، بل هو صراع لا ينتهي إلا بعودة الإسلام إلى أرض الإسراء كما كان. والتهويد نفسه كان أساسه الدين، ومناصرة التهويد من طرف الغرب أساسه الدين أيضا، فلا غرابة أن يكون التفكير في منع التهويد أساسه الدين أيضا.
إن صراع هذا العصر قضية دينية صرفة لا ينكرها إلا مجانب للصواب والموضوعية أو معاند، وهذه القضية عبارة عن مظلمة تاريخية تجاسر فيها المخلوق على الخالق وحول حكمه وقضاءه إلى هوى، فأخذ الصراع شكل تصادم بين مخلوقات على الطاعة وآخرين على المعصية، وبعضها يريد التهويد والبعض الآخر يريد الأسلمة لأرض وضع لها الديان قانونا. وقد وجد أصحاب التهويد مناصرة من أصحاب التنصير لرابط التجاسر على شرعالله الذي يربط بينهم، ويحاول النصارى بأقنعة تخفي حقيقتهم تحويل مسار الصراع، وطمس معالمه. ومن المضحك أن تزل ألسنة قادتهم أحيانا فتجهر بالصراع مع الاسلام وتنعته نعتا دينيا، ولكنها سرعان ما تتراجع عن الزلة لتمديد عمر المناورة ليس إلا، خصوصا مع وجود الكثير من الغافلين والمتغافلين من المسلمين.
وأخطر مناورة يروم الغرب تمريرها بين المسلمين إقناعُهم بإمكانية الحياة خارج الدين، وهو ما يعني وجود اللادين بحيث ينعت هذا اللادين بشتى النعوت، وتنسب إليه أفضل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية من أجل إغراء هؤلاء ببديل اللادين إذا ما كان الأمر يتعلق بالعصيان. إن قضية الدين هي إما طاعة الديان والاعتراف بالربوبية مع الإقرار بالعبودية أو عصيان الديان مع التمرد على العبودية. فالقائل باللادين يغالط نفسه وغيره لأنه مهما اختار لحياته من نمط فهو إما دين (بتضعيف الياء) لديانه وإما دين لهواه، فالتدين قدره الذي لا مفر له منه.
إن القوة المهيمنة اليوم عسكريا واقتصاديا على العالم تدين (بتضعيف الياء) الناس لدينها وتفرضه عليهم، ولكنها تنفي عنه صفة الدين ليكون سلعة رائجة بين الشعوب التي تظن التطور المادي عبارة عن شق عصا الطاعة على الأديان. ومعلوم أن اليهود والنصارى سبق لهم ممارسة تغيير شرع الله عز وجل عبر التاريخ كما شهد بذلك القرآن الكريم (يحرفون الكلم عن مواضعه) وهو عبارة عن ظلم ما دام التحريف يضع الأمور في غير مواضعها. ويواصل اليهود والنصارى اليوم ممارستهم هذه عن طريق ترويج مفهوم اللادين بين شعوب الأرض بما في ذاك المسلمين وهو محض تحريف للكلم عن مواضعه حتى تجرأ بعض ضعاف الإيمان من المسلمين على المجاهرة باللادين بوعي أو بدون وعي مسايرة لليهود والنصارى.
ومن أجل الحسم في قضية التدين لا بد من استعراض خصائص الاسلام كدين، كما جاءذلك في القرآن الكريم.
فالدين في كتاب الله عز وجل ينسب لله (ويكون الدين لله) وهذا يعني أن الخالق هو الديان وأن المخلوق هو الدين (بتضعيف الياء). والدين هو الحق {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} وهذا يعني أن الاسلام دين الحق المقابل للباطل والظاهر عليه. وقد صرح الوحي باسم هذا الدين {إن الدين عند الله الاسلام} وهذا يعني أن غير الاسلام مرفوض حتى لو تسمى دينا. ويحسم الوحي في هذا الأمر {ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه}، بل يجعل الوحي هذا الدين واصبا بمعنى واجبا {وله الدين واصبا} وهذا يعني تأكيد وجوب الاسلام. والدين اصطفاء من الديان {إن الله اصطفى لكم الدين} وهذا يعني أنه لا خيار في اختيار الدين لأحد، وإنما الخيار في الأخذ به كما اصطفاه الله عز وجل أو تركه {لا إكراه في الدين}. والدين قيم ومستقيم {ذلك الدين القيم}، {صراط مستقيم دينا قيما} وهذا يعني الاعتدال كما يعني القيمة، وما دون الإسلام لا قيمة له. والدين مختص بالديان لا يقبل شراكة {لله الدين الخالص} وبهذا تتقطع السبل بمن يروم التوفيق الملفق بين الدين واللادين، لهذا لا بد من الإخلاص {مخلصين له الدين}. والدين لا يقبل تفرقة {أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} وهذا يعني انقطاع السبل بمن يروم التفرقة في الدين. والدين عبارة عن شرع {شرع لكم من الدين} وهذا يعني أنه لا شرائع مع الاسلام. والدين يربط المتدينين بآصرة الأخوة {إخوانكم في الدين} وهذا يعني أنه لا مسوغ لعلاقة غير الإخوة في الدين. والأخوة في الدين تقتضي النصرة {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر}. والدين معرض للطعن، ومعرض للقتال {وطعنا في الدين}، {يقاتلوكم في الدين} وهذا يعني أن الأمر يتعلق بعدوان يصل حد الصدام، والمتدين إنما يحارب بسببب دينه ليس إلا. والدين لا يقبل الغلو وهو تجاوز الحد الذي وضعه الديان {لا تغلو في دينكم}، ولا مبرر للغلو مع رفع الحرج. {ما جعل عليكم في الدين من حرج}. والدين معرض للتلبيس {وليلبسوا عليهم دينهم} وهذا يعني وجود عملية هدم الدين بالتلبيس، وأكبر عملية تلبيس في هذا العصر ما ينسب للإسلام من تهم، ونقائص، وجرائم تجعل ضعاف الايمان ينفرون منه تحت تأثير هذا التلبيس.
وخلاصة القول إن ما يسمى اليوم صراعا حضاريا هو صراع ديني يمكن اختزاله في عبارة واحدة هي : صراع بين الخضوع لشرع الله وقانونه وبين رفضه، ولا قيمة لكيفية الصراع أو مكانه أو زمانه أو أشكاله. وأن هذا الصراع بات يسهم في تكريس الوعي بظاهرة التدين التي أصبحت تقلق الإنسان الغربي في بلاد المسلمين وفي عقر داره، والوعي بالتدين كفيل بتصحيح المفاهيم وتسمية الأمور بمسمياتها، ويرد الأمور إلى نصابها بعدما عبث بها التحيز والتعصب لحضارة الغرب المتطورة ماديا الخربة روحيا وهو المقصود بالتلبيس الذي هو من وحي إبليس.
ذ.محمد شركي