على أي أساس تقوم التربية؟ وهل هذا الأساس من جنس المادة التربوية نفسها، أو هل يمكن لمناهج التربية ووسائطها وطرائقها وتقنياتها مهما بلغ مستوى جودتها وجدتها؟ وكيفما كانت طبيعة الآليات الحضارية التي تنتجها، أن تقوم بنفسها، دون الحاجة إلى هذا الأساس في عملية التربية، بوصفها عملية مستمرة على امتداد مسار المجتمع في الزمن؟
بعبارة أخرى: إن تساؤلا أساسيا يقوم أمام الباحث في مجال ـ بل مجالات ـ التربية، خاصة من مقترب “الإطار الناظم” لهذه التربية، والمعرفة التي تسددها، أو توجهها على الأقل.
ذلك هو سؤال “المدد المعنوي للتربية”.
لقد أثبتت تجارب البناء التربوي في مجتمعاتنا المسلمة خلال النصف الثاني من القرن الميلادي الماضي ـ مرحلة الاستقلالات الوطنية ـ أن خللا كبيرا صاحب عملية التفكير و”البناء” في مجال التربية، إذ في الوقت الذي كان الاهتمام منصبا على الوسائل التربوية الأنجح، والمناهج التعليمية الأصلح، ووسائط التربية الأنجع، والوسائل التعليمية الأقدر على إخراج الجيل المتعلم، الذي يجمع بين الاستيعاب الواعي والمتبصر للمعارف، وبين القدرة على الفعل الإيجابي (الفعالية)، في ذلك الوقت، كانت مؤسسات كاملة، يفترض أنها المؤسسات “القاعدية” في المجتمع، وبما فيها مؤسسة المدرسة نفسها، تعرف حالة من الإفراغ المتسلسل من المضمون الحامل للمعنى، أو القادر على إعطائه، فعرفت بذلك مجتمعاتنا المسلمة ـ وهي تعرف اليوم بدرجة أكبرـ حالة من التهميش لدور أساسي من أدوار المؤسسات المركزية في المجتمع، وهو دورها في “صناعة القيم”. ما يستدعي وقفة ولو عابرة مع هذه القيم وعلاقتها بتلك المؤسسات ذات المهام الخطيرة.
كيف يتحقق “الخلود الوظيفي” للقيم؟
ثمة خاصية أساسية للقيم، بوصفها العنصر الأهم في عملية البناء التربوي وبالتالي الثقافي لمجتمع ما، تلك هي خاصية “الخلود الوظيفي”، فالقيم أهداف غير قابلة للإشباع، كيفما كان نوعها، فكرية أو أخلاقية، فنشدان الحق وحده، والاحتكام إلى الدليل الأقطع مثله مثل الصدق والوفاء، واحترام الواجبات، والالتزام الأخلاقي مع الغير، والإيجابية، وروح المبادرة… كلها قيم يحتاجها المجتمع في أي مرحلة من مراحله بلا استثناء، وليس في دائرة الاحتمال بلوغه مرحلة يحقق فيها إشباعا أو “اكتفاء” من أي من تلك القيم، بحيث لا يعود لها دور ولا إليها حاجة.
هذه الخاصية التي تميز القيم، تدعو بالضرورة إلى وجود مؤسسات تقوم بمهمة إعادة إنتاج هذه القيم، بما يحقق الاستجابة لمطلب المجتمع في اكتساب القيم والاستفادة منها بشكل مستمر.
ولعل العلاقة الشرطية التي تربط بين مؤسستي الأسرة والمدرسة في مجال الأدوار والوظائف تجلي هذه المهمة، فإذا كانت الأسرة هي أول مجالات اكتساب الإنسان لقيم الجماعة التي ينمو داخلها (المجتمع)، أو هي المجال الذي تتشكل فيه شخصية الإنسان بالقوة، فإن المدرسة هي المؤسسة التي تبني شخصية الإنسان “بالفعل” وتسمها بالسمات الثقافية للمجتمع، وتكسبها قيمه، وبالتالي توفر للإنسان المنظومة التي تؤطر فكره وسلوكه، وتزوده بالأدوات المعيارية التي يحتاج في مسار الحياة، مع كل ما يطرح عليه من قضايا وإشكالات.
وبهذا تكون شخصية الطفل متصلة من حيث البناء بقيم المجتمع عبر قناتي الأسرة فالمدرسة ابتداء قبل غيرهما من القنوات… فيأخذ الفرد عن المجتمع وتستمر القيم بين أجياله مؤدية رسالتها في التفسير، إذ تشكل الرؤية المعرفية، والتسديد إذ تبنى المنظومة الأخلاقية.
القيم وجدلية الفرد والمجتمع والمستقبل
حين تنطبع شخصية الفرد بقيم المجتمع، تكون قادرة على التعاطي إيجابيا مع هذا المجتمع نفسه، وعلى التأثير البناء في مساره من خلال دوافع الترقي المحكومة بالميزان القيمي الجامعالقائم على قاعدة “القرب للصلاح والبعد عن الفساد” بالعبارة الشهيرة.
فحاجة المجتمع الخالدة ـ خلودا إنسانيا نسبيا ـ إلى القيم إذن، تستتبع قدرة مؤسساته على إعادة إنتاجها باستمرار للاستجابة لتلك الحاجة، وهي حقيقة تمكن من إدراك حجم الأخطار التي تهدد مستقبل مجتمعاتنا المسلمة بالنظر إلى التحديات الهائلة التي تواجه بقاء منظومة القيم في المجتمع من خلال ما يواجه المؤسسات التي تسهم على إعادة إنتاجها باستمرار(1).
وهو أمر يؤكد أن بقاء منظومة القيم مسددة لمسار المجتمع رهن ببقاء المؤسسات التي تنتجها قائمة أولا، وآخذة عن مصادر ثقافة المجتمع نفسه ثانيا.
إن هذه الحقيقة تعيد طرح سؤال الإطار الثقافي للتربية، سواء كانت المؤسسة التي تؤديها أسرة أو مدرسة أو غيرهما، السؤال الذي يتجه صوب “المدد المعنوي” لمدرستنا في مجتمعاتنا المسلمة المنطلق من تربية تقدر تلك القيم، وتحرص على استدامةدورها في صناعة الأجيال ـ أجيال المستقبل ـ
—-
(ü) رئيس مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية – وجدة.
(1) لاحظ أن المرحلة التي بدأت مع تسعينيات القرن الميلادي الماضي ولا زالت ممتدة إلى الآن، قد عرفت نقاشات واسعة امتدت إلى مبدأ تكون تلك المؤسسات وطبيعتها، ومحاولات لحصر الأدوار التي ينبغي لها أن تؤديها (الأسرة، المدرسة، وسائط المعرفة والاتصال، (مؤسسة الإعلام)، الخطاب الديني (مؤسسة المسجد والتعليم الشرعي…) ما يؤكد أن أشرس معارك هذه المرحلة (مرحلة العولمة) هي تلك التي تخاض على مستوى منظومات القيم الخاصة بالمجتمعات المختلفة في العالم ـ تحديدا: المجتمعات غير الغربية، وبشكل أخص المجتمعات الموصوفة بأنها تحمل عناصر مقاومة عالية في ذواتها الثقافية لـ”قيم العولمة” أي المجتمعات المسلمة. والمؤسسات التي تنتج تلك القيم.
ذ.سمير بودينار