التحريف في شق التشريع(1)
كان لإحباطات الشخصية اليهودية عبر تاريخها الطويل انعكاس قوي على نفسيتها ووجودها الذي تميز بالصراع الدائم،كما أن عامل الهجرات والأزمات المتلاحقة عمق آلامها وجراحها،وظل القلق سمة بارزة فيها.واعتبرت في نظر مؤرخي حضارات الأمم شخصية مريضة وغير سوية لا ينتهي توترها وألمها. وهذه سنة الله في الخلق .قال الحق سبحانه : {ولن تجد لسنة الله تبديلا}(الفتح :23). {ولن تجد لسنة الله تحويلا}(فاطر: 43). وقال الحق سبحانه كذلك : {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين}(آل عمران :137).
ولاستكمال دراسة تبعات لعنة الله والأنبياء والرسل والصالحين من الأمم على هذه الشخصية المريضة،يجب إلقاء الضوء على تعاليم أسفارهم،أسفار العهد القديم التي تعد الأساس في تكوين الشخصية اليهودية،والاطلاععلى منتوجهم الثقافي في العهود التابعة إلى وقتنا الحاضر.
إن اليهود مروا بمراحل زمنية خطيرة،دونتها أسفارهم،منها كما يزعمون في التوراة التي حرفها الكاهن عزرا،لا التوراة الحقيقية التي فقدت قبل السبي البابلي.ولأن تاريخ اليهود حافل بالأكاذيب والمغالطات. حتى الدارسون التوراتيون BIBLICAL SCHOLARS قد استعملوا الموارد العقلية والمالية الجبارة في البحث عن تاريخ إسرائيل، ولم ينتهوا إلى أية نتيجة حقيقية تقول بقدم إسرائيل على ما يسمى بفترة الآباء PATRIARCHS والهجرة EXODUS، بل في الفترة المتأخرة من العصر البرونزي- الحديدي، وهوعصر داود عليه السلام. وفترة الآباء هي فترة الأنبياء،لأن لفظة النبي نقلها بنوإسرائيل إلى لغتهم من عرب فلسطين القدامى.
وقد فطن كثير من الدارسين الذين يبتغون حقائق التاريخ،ويسعون جادين في بلوغ الأهداف السامية للعلم،لخدمة الإنسانية المتشوقة والمتطلعة إلىمعرفة حقائق التاريخ الإنساني للأكاذيب وجوانب الغموض التي تحف تاريخ إسرائيل القديمة والحديثة. وكتاب : اختلاق إسرائيل القديمة -إسكات التاريخ الفلسطيني- لكاتبه :كيث وايتلام .الذي بذل مجهودا كبيرا لتحري الدقة الكاملة يكشف ادعاءات الدارسين التوراتيين الغربيين، بل ويخوض صراعا حقيقيا معهم،خصوصا وأن التنقيبات الأثرية أسفرت عن كشوف في جوانب كثيرة من التراث الثقافي والروحي الضخم الذي خلفته الشعوب العربية القديمة السامية،وخاصة الكنعانية التي سكنت فلسطين.ولكن السلطات اليهودية المشرفة على التنقيب الأثري تعمل جاهدة على طمس معالم الحضارة العربية الكنعانية(37).
وأهم مراحلهم التاريخية كما تزعم توراة عزرا ثلاث :
> المرحلة الأولى : وهي مرحلة سابقة في الأصل على سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام بزمن طويل يصل إلى حوالي سبعة قرون.وهم يدعون أنها مرحلة تبتدئ بإبراهيم عليه الصلاة والسلام حيث هجر من بلاد ما بين النهرين إلى الجزيرة العربية، ومن ثم إلى أرض كنعان (فلسطين). وقد حاول اليهود في سفر التكوين ربط نسبهم بهذا الرسول العظيم،لما تميز به من مكانة مرموقة في تاريخ البشرية.غير أن الله تعالى كشف كذبهم هذا قائلا : {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما}(آل عمران :67).
كما يحاولون جادين في هذا ربط نسبهم بسيدنا إسحاق وحفيده يعقوب،ثم يوسف عليهم السلام،خصوصا وأن يوسف دخل مصر وأصبح له شأن كبير مع عزيزها وتوفي بها.وقد دونوا ذلك في أسفارهم،وليس في هذا أدنى نصيب من الحقيقة.
> المرحلة الثانية : وهي المرحلة الحقيقية والواضحة تاريخيا،في بداية تكون الشخصية اليهودية، والتي كانت على الأرجح في أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد.وهم أنفسهم في كتاباتهم التاريخية يشيرون إلى أنها أهم حقبهم التاريخية، لأنها ترسم تاريخ الخروج،ولوأنها غير ثابتة علميا.لأن فيها هرب بهم موسى عليه السلام عبر الطرف الشمالي للبحر الأحمر إلى الصحراء، ووقفوا عند جبل سيناء أوحوريب،والشريعة التي أنزلت على موسى في جبل سيناء تلخص تقليديا بالوصايا العشر التي يقال إنها نقشت على الحجر وحفظت فيما بعد في (تابوت) هوتابوت العهد.كما أن في هذه المرحلة نزلت التوراة على موسى عليه السلام،وظهرت بعده بقليل الإصحاحات الأربعة التي نسبوها إلى موسى كذبا وافتراء، وهي : الخروج واللاويين والعدد والتثنية.
وقد أثبتوا في سفر الخروج أن موسى قال لهم بصريح العبارة : (أنتم شعب صلب الرقبة)(38)كما وصفهم في سفر العدد : (اسمعوا أيها المردة)(39).
وتتوالى هجرتهم من مصر مع يوشع بن نون ليدخل بهم إلى أرض الكنعانيين بحرب ضروس -كما يكتبون – إذ (يعمل السيف في رقاب كل رجل وامرأة وطفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير)(40).
ويشوع عندهم في أسفارهم صورة أخرى مغايرة ليوشع النبي، الذي ذكره القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة .فهوخليفة موسى عليه السلام، وهورجل حاكم عادل،وقائد مؤمن صالح، قاد الجيل المؤمن الصالح المجاهد من بني إسرائيل لمقاومة الكفار، ونشر العدل والتوحيد ومقاومة الفساد، ولم يكن كما تصوره أسفارهم رجلا فتاكا وحشيا مجرما سفاكا للدماء، أتى على الأخضر واليابس وعلى الإنسان والحيوان يدمر ويحرق ويهدم.كما صور ذلك سفر يشوع.
> المرحلة الثالثة : ولا تقل أهمية ومخاضا عن المرحلة السابقة، من حيث الصراع من أجل الوجود والتشرد والتشتت.وهي مرحلة السبي البابلي، حيث دمر القائد نبوخذ نصر الثاني ( 562- 604 ق .م) القدس وسبى أهلها . وفيها يتم تكوين شخصية يهودية أخرى،نسجتها ظروف اللعنة الماحقة،حيث تحرف التوراة وتعاد كتابتها بشكل آخر على يد عزرا الكاهن البابلي،والماهر كما يقولون في شريعة موسى، وقد دخل أورشليم في زمن ارتحششتا الملك الذيكتب : (من ارتحششتا ملك الملوك إلى عزرا الكاهن كاتب شريعة إله السماء الكامل)(41).وتؤكد جميع الدراسات العلمية التاريخية أن التوراة فقدت مع السبي البابلي أوقبله بقليل.ولا يدري المؤرخون من أين استقى عزرا معلوماته الدينية بعد فقدان كتاب التوراة الأصلي، ويكون هذا عزرا هو ناشر شريعة اليهود وليس شريعة موسى عليه السلام،كما تشير إلى ذلك دائرة المعارف البريطانية.
والتوراة المنتحلة الجديدة التي كتبها عزرا هي أصلا نتاج تبعات اللعن الإلهي عبر أزمنة التاريخ،وهي تعبير خالص عن إحباطات النفس اليهودية، والترحل الدائم وعدم الاستقرار، وبذلك حاول عزرا رسم المقاصد اليهودية العليا للاستقرار عبر التاريخ،حيث حدث التحريف الأكثر طغيانا وغلوا للتشريع.فهم بمجرد مخالفتهم لأوامر الله على لسان أنبيائه ورسله الذين كانوا معهم على أشد ما يكون الاختلاف بعدم طاعتهم والتمرد عليهم،يدركون أن التحريف كمرحلة نهائية يجب أن يكتمل لتبرير سلوكهم تاريخيا زعما منهم أن الدارسين لا يستطيعون اكتشاف ذلك عبر الأزمنة اللاحقة, والعمل الجاد والحثيث زمنيا على اغتصاب أرض فلسطين والاستيلاء عليها وعلى ما جاورها .وقد دونوا في سفر التثنية: (كل مكان تدوسه أقدامكم يكون لكم)(42).
وهم بهذا يجعلون العلاقة وطيدة بين عقيدتهم المنحرفة واغتصابهم الأرض. وقد فضحوا أنفسهم حين دونوا في سفر يشوع أنه قال لهم : (أعطيتكم أرضا لم تتعبوا عليها ومدنا لم تبنوها وتسكنون بها، ومن كروم وزيتون لم تغرسوها،تأكلون)(43)،وهم يتوسلون إلى الآن بهذا الحق، ويقولون إن داود قال له الرب : (إن حفظ بنوك عهدي وشهادتي التي أعلمهم إياها فبنوهم أيضا إلى الأبد يجلسون على كرسيك)(44).ودون البحث في صحة هذا القول،هل حافظ اليهود ولومرة على عهودهم مع الله وعلى شهادتهم مع أنبيائه ورسله،أوحتى مع من جاورهم ؟ ! التاريخ ينكرهذا وهوأكبر شاهد على ذلك.
وهذا العامل في تحريف التشريع قصد تحديد وطن لهم، تبعه عامل آخر أكثر خطر ا وأعظم وزرا، وهونتاج الشعور بالدونية للشخصية اليهودية عبر مراحل التشتت الزمني التاريخي والعذاب المستمر والمتجدد، حيث تنتحل صفة النقاوة والاختيار للشعب اليهودي،ليكون ذلك أوضح انسجاما لأجيالهم اللاحقة وللأمم الأخرى مع تشريعاتهم.
وللحفاظ على هذا النقاء العنصري أكد سفر الملوك الأول عندهم(45): على منع الزواج بالأجنبيات .ثم أضافوا إلى هذا النقاء الاهتمام بالأنساب ووضعوا لها تقسيما حسب الأسباط الإثني عشر وسموه بالتوزيع الإثني عشر،إذ يتم توزيع الأراضي كل 49 سنة على أحفاد الأسباط .وهذا ما سطره سفر اللاويين(46).
ونجمت عن ذلك العزلة المقيتة التي لم تعرفها أمة من أمم الأرض.فهم تشددوا في عدم الاختلاط مع الأغيار،بل واتخاذ أسواقا وأحياء منغلقة خاصة بهم (الكيتو) كما تسمى في أوربا أوالملاح في المغرب أوحارة اليهود في مصر وغيرها من أسماء حاراتهم وأحيائهم التي شاعت في البلدان التي أقاموا بها. كما كانت تطلق كلمة (القاهال) على تجمعاتهم الدينية الطائفية في مدن الشتات.
وقد لعبت هذه التجمعات دورا خطيرا في تاريخ الأمم التي قطنوها،فهم اشتهروا بتحريك المشاكل وتفجير الأزمات،إذ فعلوا ذلك في بابل مع رئيس كهنة فلسطين ينسجون المشاكل بدهاء في فلسطين بوجه الرومان، وهم يمكرون بأصحاب الرسول الأكرم محمد في المدينة المنورة بالتحالف مع المشركين لضرب الإسلام وقد قال فيهم الحق سبحانه : {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين}(آل عمران :54). ودور الحركة السبيئية معروف عبر التاريخ حيث قامت بأبشع الأعمال،واستمر تأثيرها التخريبي إلى دهور متأخرة في صور متنوعة ومتطورة .ولما أحست القيصرية الروسية في عهد نقولا بخطر ( القاهالات ) على الدولة أمرت بإزالتها عنوة سنة 1844 م، وأصبحت الطوائف اليهودية تحت إشراف الدولة الروسية مباشرة بعد أن كانت هذه (القاهالات) تجسد حكما ذاتيا وشبه مستقل عن الدولة.
———–
37-اختلاق إسرائيل القديمة.لكيث وايتلام.ترجمة سحر الهنيدي.سلسلة عالم المعرفة.رقم :249.
38- سفر الخروج 15/24.
39- سفر العدد 20/10 .
40- سفر يشوع 6/21 .
41- سفر عزرا 7/1-9 .
42- سفر التثنية 11/23 .
43- سفر يشوع 24/13 .
44- مزمور 32/12 .
45- سفر الملوك الأول ج11/1- 2 .
46- سفر اللاويين . الإصحاح 25 .
د.عبد القادر بنعبد الله