لما كانت النفوس البشرية ليست على درجة واحدة من الاستعداد لقبول “الحق” والالتزام به، وتحمّل ثقله، وأداء أمانته، لذا فليس من الحق أن نقول “الحق” -كلّ الحق- في كل زمان وفي أي زمان، وليس من الحق أن نقول الحقّ كلّ الحق في كل مكان وفي أيّ مكان، كما يعلمنا “النورسي”(1).
وذلك لأن “الحق” ثقيل هائل الثقل في ميزان السموات والأرض، وجسيم جسامة الجبال الرواسي في عين الحياة والوجود، وما أكثر ما ينوء الانسان بحمله، ويشفق منه، ويجود عليه، وينحرف عنه، وقليل هم أولئك الذين يطيقون حمله، والاصطبار عليه، والوقوف معه، والالتزام بتبعاته ومسؤولياته، وأقلّ من القليل أولئك الذين لا يضيقون ذرعاً بأسراره، ولا يشعرون بثقل المسؤولية على نفوسهم فيسرعون بطرحها عنهم، وإلقائها على الآخرين دونما تمييز ليستريحوا من حِمْل لم يكونوا مؤهلين بالأساس لحمله، فيخطئون بحق أنفسهم مرة، ويخطئون بحق الحق المؤتمنين عليه ألف مرّة.
فما أكثر الذين دفعوا رؤوسهم -بلا طائل- ثمناً لكلمة حق لم يحسنوا قولها، وما أكثر الذين أباحوا دعاءهم من أجل ما أفشوه، من علم ما كان ينبغي أن يُفْشَى وما أذاعوه من سرّ بينهم وبين الله تعالى ما كان ينبغي أن يشيع ويُفَضّ خاتم الصمت عنه.
حكي عن أبي هريرة ] قال : >إني رُوِيتُ عن رسول الله وعاءين أحدهما هو الذي بَثَثْتُه فيكم، وأما الثاني فلو بثثته لحززتم السكين على هذا البلعوم وأشار إلى حلقه<(2)، فالرسول ، وكما هو معلوم من السيرة، خصَّ بعضَ صحابته وبعضَ أهل بيته بما لا يريد أن يشيع أمره في عموم المسلمين، وأفضى للصحابي الجليل حذيفة ابن اليمان بعلم أسماء جميع المنافقين المخفيين في زمانه ومنعه من إذاعة أسمائهم حتى بعد وفاته، وأتمن آخرين على بعض من شؤونه وترك لهم الخيار في التحدث أو عدم التحدث عنها بعد وفاته.
ففقه الدعوةإلى الله تعالى هو أشرف أنواع الفقه، وأكثرها فائدةً لأصحاب الدعوات، ومن غير هذا العلم الذي هو فنّ كذلك، يضرّ الدعاة من حيث يظنون النفع، ويهدمون من حيث يظنون أنهم يبنون، فهذا الفقه – إذا نحن فقهناه- يضع بين أيدينا أشدّ الموازين حساسيةً، وأدقّها في التمييز بين ما هو واجب وما هو أشدّ وجوباً، وبين ما هو خير وأكثره خيريةً، وبين ما هو باطل وأقله في البطلان، وبين ما هو شرّ ودونه في الشرية.. إلخ، فلا نرى بأساً من الرضى بقليل من الباطل من أجل الكثير من الحق وأن نتنازل أحياناً عن بعض الحق من أجل ألاّ نخسر الحق كلَّه، وأن نقبل بشرّ مخافة شرٍّ أعظم منه، وبباطل مخافةً باطلٍ أعمّ منه، ومن خلال ذلك نستطيع أن نبصر الخيط الرفيع عن الحق بين الحزمة الهائلة من الأباطيل، فنمسك به بأناة، ونحسبه برفق لنَضُمَّهُ إلى نسيج الحق الذي ننسجه ونؤلف بين خيوطه خيطاً خيطاً.
فالداعية إلى الله لا يعفيه إيمانه وإخلاصه عن لوازم الحكمة وضوابط العقل، ليكون داعياً ناجحاً كما تريده الآية الكريمة : {ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} فلابدّ له من اختيار الظرف المناسب ليقول ما يريد دون ضجيج قد يوقظ نائماً، ربما كان من الأفضل للحق نفسه أن يَظَلّ غاطّاً في نومه لا ينتبه منه أبداً.
لا أدري أين قرأت هذه الحكاية ذات الدلالات المغنية عن الكثير من القول في حكمة الدعوة، وفَنِّ الحديث : في زقاق من أزقة دمشق شاهد فَقِيه واحداً من تلامذته ممسكاً بتلابيب جندي سكران من جنود “هولاكو”، وبيده قارورة خمر يَصُبُّ منها بين الفينة والفينة وهو يترنح ذات اليمين وذات الشمال، والتلميذ الهمام ممسك به يعظه ويشرح له حكم الاسلام في الخمر وشاربها، فما كان من الأستاذ الفقيه إلا أن أشار إليه زاجراً وناهراً وقال : اتركه يا بنيّ في سكره فأنه لو صحا لصارت دماءٌ المسلمين خمرتَه، وجزٌّ رقابهم لُعبَتَهُ.
وقديماً قال علماؤنا : كنّا نعيبُ على الرجل أن يكون علمه أكبر من عقله، وأن يكون عقله دون علمه.
ولعلمائنا كذلك : ليس العاقل الذي يعلمُ الخير من الشرّ، وإنما العاقل الذي يعلم خيرَ الخيرين، وشرّ الشرّين. ولشاعرٍ :
إن اللبيب إذا بدى من جسمه
مرضان مختلفان داوى الأخطرا
—-
1- انظر المكتوب الثاني والعشرين من المكتوبات ص 343.
2- إحياء علوم الدين، المجلد الخاص ص 41، دار المعرفة بيروت.
د.أديب الدباغ-تركيا