إن الله تعالى خلق الإنسان لعمارة الأرض وسخر له الكون وكرمه وفضله على كثير من خلقه وحمله الأمانة التي حطت رحالها في الدين القيم الذي ارتضاه الله لخلقه، ولم يقبل منه دينا سواه ذلك الدين الذي رسم له بدايته وحكمة وجوده ونهاية مصيره، ثم خلق منه الزوجين الذكر والأنثى وجعلهما متساويين في المنطلقات الأساسية، وإذا وقع الاختلاف فهو اختلاف تنوع وتكامل لا اختلاف صراع وتضاد. لذا تجدني لما وعدت القراء الكرام باللقاء مع الصادقين لم يكن قصدي الاقتصار على الرجال دون النساء والمولى يقول : {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما}(الأحزاب) وكم من امرأة فاقت في المكارم الكثرة الكاثرة من الذكور ولا سيما أولئك الصديقات اللواتي صنعهن الإسلام في مدرسة القرآن وقدمهن هدية إلى البشرية ليكُنَّ حجة على نساء العالمين، ومن هؤلاء :
الطاهــرة : خديجة بنت خويلد
إنها خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب وأمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم بن حجر بن معيص بم عامر بن لؤي، فهي تجتمع مع الرسول الكريم في النسب سواء من جهة الأم أم من جهة الأب .
كان يطلق عليها في الجاهلية الطاهرة وقد تزوجت قبل الرسول الكريم وكان لها أولاد من غيره أكرمهم الله بالإسلام وعاشوا في كنف سيد الأنام حتى قال أحدهم وهو هند بن هند :”أنا أكرم الناس أبا وأما وأخا وأختا : أبي رسول الله وأمي خديجة وأخي القاسم وأختي فاطمة”.
ولقد أعطاها الله من الذكاء والفطنة وقوة الشخصية ما جعلها أمنية كل شريف في قريش لو استطاع أن يصل إليها ويتزوجها، يكفي في وصفها ما نقل عن صديقتها نفيسة بنت منية التي قالت : “كانت خديجة بنت خويلد امرأة حازمة جَلِدَة شريفة مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط قريش نسبا وأعظمهم شرفا وأكثرهم مالا، وكل قومها كان حريصا على نكاحها، لو قدر على ذلك، قد طلبوها وبدلوا لها الأموال فلم تقبل منهم أحدا .
الرسول في تجارة خديجة
لما سمعت خديجة بأخلاق الرسول الكريم وصدقه وأمانته ورجاحة عقله وتفوقه على أقرانه مع ما كانت تسمع من ابن عمها ورقة بن نوفل عن صفات النبي المنتظر، فشغلها أمره وأرادت أن تتأكد بنفسها عما يشاع عنه ويذاع، فبعثت إليه وطلبت منه بأن يخرج في تجارتها وتعطيه ضعف ما كانت تعطي غيره، وفعلا استجاب لطلبها وبعثت معه غلامها الأمين ميسرة وكلفته وبخدمته مع الحرص على إتيانها بتقرير مفصل عن كل حركاته وسكناته وأقواله ومعاملاته …وإلخ. ولما رجعا من الرحلة بربح وفيرقدم لها ميسرة تقريرا مفصلا عن رحلته وعن الغمامة التي كانت تظله في الهاجرة، وما قال له الراهب نسطورا وعن أمانته وسمو أخلاقه مع الناس جميعا، ذلك التقرير الذي أذهلها ولا سيما تلك الإرهاصات الرسالية التي كانت تسمعها من ابن عمها ورقة بن نوفل، فطمعت بأن يكون هو النبي المنتظر، الشيء الذي جعلها تتنازل عن أنفتها واعتزازها وكبريائها التي كانت تبديها للغير، وأعدت نفسها لأن تكون راغبة بعد ما كان مرغوباً فيها وطالبة بعد ما كانت مطلوبة من الأغنياء والوجهاء، لكن هذا الأمر أصبح لا يعنيها في شيء وإنما الشيء الذي يؤرقها ويقض مضجعها هو كيف السبيل إلى ذلك؟ ومحمد بن عبد الله هو من هو؟ : حياء وعفة وشرفا وهيبة واحتراما، فمن يخاطبه في الأمر؟ من يجرؤ عليه ويختبر رغبته؟ فأخذت تفكر وتقلب النظر حتى اطمأن قلبها إلى صديقتها الوفية نفيسة بنت منية، فبعثت إليها في الحال وأفضت إليها برغباتها وأشواقها مع استعدادها للتضحية بكل شيء من أجل تحقيق ذلك . فما كان من الصديقة الوفية إلا أن قامت بالدور المطلوب فذهبت إلى رسول الله وبدهاء المرأة قالت له :”يا محمد ما يمنعك أن تتزوج؟ قال :”ما بيدي ما أتزوج به” قالت :”فإن كُفِيت ذلك ودُعِيت إلى المال والجمال و الكفاءة والشرف ألا تجيب”؟ قال : “فمن هي”؟ قالت : “خديجة” قال :”وكيف لي بذلك”؟ قالت :”ذاك اتركه لي” قال : “فأنا أفعل” فعادت إلى صديقتها وأخبرتها بالخبر السار وبقبول الحبيب المصطفى، فما كان من خديجة وفي جو الفرحة الغامرة إلا أن بعثت إليه وحددت إليه موعد مجيئه ولما وصل الوقت المحدد ذهب مع بعض أعمامه وبعض شرفاء قومه وفيهم أبو طالب الذي ألقى خطبة طويلة يطلب فيها يد خديجة من عمها عمرو ابن أسد الذي ما أبدى قبوله حتى قال :”هو الفحل لا يقذع أنفه”.
الزواج المبـارك
لقد تم الزواج المبارك بالرغم مما بينهما من التفاوت في السن، لكن خديجة زوجة لا كالزوجات وأم لا كالأمهات، تزوجت الحبيب المصطفى ولها من الطموح ما يتجاوز الدنيا ومتاعها الفاني، فقدمت له كل ذرة من كيانها وتنازلت عن كل أموالها ليديرها ذاك الشهم بحكمة العقلاء وحزم وعزم الرجال الأقوياء الذين يضعون كل شيء في مكانه المناسب، يكفي في ذلك وصفها له يوم أن جاء من غار حراء بعد التقاء الأرض بالسماء لإنقاذ البشرية من الشرك والوثنية وطغيان الأقوياء وهو يقول :”زملوني زملوني” فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة واخبرها الخبر”لقد خشيت على نفسي”فقالت خديجة بلهجة الصدق واليقين :”كلا والله ما يخزيك الله أبدا : إنك لتحمل الكَلَّ وتُقْرِي الضيف وتُكسب المعدوم وتؤدي الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث وتعين على نوائب الحق فأُقبل الذي جاءك من الله فإنه حق وابشر فإنك رسول الله حقا”.
إن هذه التأكيدات لم تلقها رضي الله عنها جزافا، إنما جاءت عن علم ودراية، حيث كانت على اتصال مستمر بابن عمها ورقة بن نوفل لتخبره بكل أخبار رسول الله لما كان يحذوها من الشوق إلى ذلك اليوم المنتظر وكان ورقة بدوره لا يقل عنها شوقا لكبر سنه وخشيته من سبق الأجل فعبر عن لوعته شعرا وقال :
لججت وكنت في الذكرى لجوجا
لهــــم طـــالمـــا بعث النشيجــــــــــا
ووصــف من خديجة بعد وصـف
فقد طــــال انتظــــاري يــا خديجــــا
ببطـــــــن المكتين علــــى رجائي
حـــــديثك أن أرى منه خـــــروجــــا
زيادة على أن هذا التقييم الجليل من خديجة أم المؤمنين لشخصية الرسول الكريم قبل البعثة، إن دل على شيء فإنما يدل على رجاحة عقلها وسلامة فطرتها وعلمها الجم بإرهاصات الرسالة الخاتمة، لذا ما أن حصل ما حصل حتى طارت به إلى الحبر ورقة بن نوفل وقالت له :”يا ابن العم اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة :”يا بن أخي ماذا ترى”؟ فأخبره الرسول الكريم بما رأى فقال له ورقة :”سُبُّوح قُدُّوس، هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله :”أَوَ مُخْرِجِيَِّّ هُمْ”؟ قال :” نعم لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا”.
كان هذا يوم فرح عظيم، ولم تكن فرحة خديجة التي رأت من خلقه ومروءته ما ملأ كيانها اعتزازا وفخرا وهي ترى أملها العريض الذي ضحت في سبيله بكل ما تملك يتحقق بأكثر من فرحة الحبر ورقة بن نوفل الذي أحياه الله حتى رأى اليوم الذي اشتاق له وآمن برسوله حتى قال فيه الرسول الكريم :”رأيت الشيخ يجر أذياله في رياض الجنة”.
عادت به خديجة إلى منزلها وفرحتها لا تسعها السماوات والأرض وما بينهما لتقوم بتجربة تتأكد بها من الآتي هل هو ملك أم شيطان؟ وانتهت إلى اليقين بأنه ملك فأقبلت على الرسول الكريم تشجعه وتثبته بكلمتها الخالدة : “أبشر يا ابن العم واثبت فوالذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة”. ثم توالى على الرسول الكريم الوحي ونزل جبريل ليعلمه الوضوء والصلاة فتصلي هي وراء الرسول بصلاة جبريل عليه السلام لتحوز شرفا بعد شرف، شرف أول مؤمنة في هذه الأمة وشرف أول مصلية فيها .
ومنذ تلك اللحظة وطدت العزم على أن تكون له وزير صدق وتوفر له كل ما يعينه على تأدية رسالته، فكان لا يأتيه كرب ولا يصيبه مكروه يعود إليها، إلا خففت عنه همومه وشجعته وتبثثه وهونت عليه الأمر وردت عنه عادية الأعادي، إلى أن اختارها الله إلى جواره، ولمكانتها في قلب الرسول الكريم ولتضحيتها الجسيمة أطلق الرسول الكريم على تلك السنة عام الحزن .
ذ.علي علمي الشنتوفي