1- ملكيون أكثر من الملك
حملتني خطواتي في ليلة من ليالي الأسبوع الفارط وأنا أسيرة نهمي الأدبي المستديم، رفقة شقيقي وشقيقتي
إلى المركزالثقافي الفرنسي بالدار البيضاء، لحضور نشاط ثقافي ينظمه المركز تحت عنوان “عيد القراءة”.
وكانت تلك الليلة مخصصة لقراءات أدبية بأقلام كتاب مغاربة. وكان من المنتظر أن يحكوا عن تجربتهم الأدبية. وأنا المولعة بضجيج الكلمات كنت أمني النفس باكتشاف أصوات مغربية، لها كل الحق في تجريب حفريات الكتابة بلغة موليير أوحتى شكسبير لكنها ستظل كما ظننت، وبدون شك مدموغة برائحة تراب الوطن وجذوره الدينية، إلا أن ما اكتشفته تلك الليلة تحت قبة المركز الثقافي كان شيئا آخر، ولله الحمد من قبل ومن بعد!..
في البدء ونحن ندلف عتبة المركز كان المنظر جديرا حقا بتغطية كاميرا أمريكية توظب شريطا سينمائيا تحت عنوان: (أسامةبن لادن يلج المركز الثقافي الفرنسي)!! ، فعند أول خطواتنا إلى الداخل الذي كان يعج بشباب مغاربة وبضعة أجانب، اتجهت كل الأعين صوبنا بنظرات استهجان واضحة كما لوكنا شعرة متوحشة تسقط على سطح صحن حساء.. ، كانت عيونهم المتوجسة تلاحق حركاتنا وسكناتنا دون أدنى مبرر، فقد كنت وشقيقتي نرتدي جلاببب مغربية أنيقة في غير بهرجة ، جلابيب لا تضيق ولا تشف أي نعم ولكنها لا تذكر بأي حال بالجلباب المشرقي الأسود الذي صنع منه الغرب عنوة، فزاعة لاختراق الشعوب الآمنة، وكان شقيقي المرافق لنا يرتدي لباسا رياضيا بسيطا، فما الذي أفزع القوم وأوقف الزغب في مسامهم؟.
من جهتي لم يكن تصرفهم ليحرك قلقي أويستحث مشاعر الغربة بداخلي، فالتراب تراب بلادي والوطن وطني، والحجاب شرع ربي وعزتي وفخاري. وكنت أعي بشكل جيد أن حركة تغريب الأمة الدؤوبة لم تكن لتنتج إلا خلطات هجينة من المسلمين إسما، والمتغربين سلوكا، كما عاينت نماذج منهم هذه الليلة..
وحتى ونحن جلوس داخل قاعة المحاضرات والأجواء كلها تحيل على فضاء باريسي مائة بالمائة، كانت عشرات العيون تتلصص على ملامحنا وعلى تعابير وجوهنا ونحن نتابع اللقاء باللغة الفرنسية القحة وكأن أصحابها يستكثرون على سحناتنا الإسلامية أن تفهم في لغة الأسياد، بله أن تتذوق أدبا فرنسيا، ولم يكن ذلك ليزعجني، فقد كنت كما قلت آنفا، مؤمنة بضرورة التواصل الحضاري شاء اليمقراطيون أم أبــــوا!…فقط، كان هناك في هذا الفضاء الفرانكوفوني ماهوتراجيدي ولا يتحمل أي نفس تطبيعي معه، ويتبدى لا في هيئة ولباس وحديث مغاربة من سلالة النبي المصطفى، مغاربة أضاعوا مشية الغراب والطاووس، وغدوا أكثر ملكية من الملك كما يقال، في نظراتهم المستثقلة لحضورنا في عرس استلابهم الأليم، بل، (وهذا هوالأدهى) فالتراجيدي كما أسلفت يكمن في استعارتهم لنفس الملامح المتكبرة والإستعلائية لأسيادهم تجاه إخوانهم من امثالنا، والذين كان من المفترض أن يكونوا إزاءهم كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضا كما قال رسول الله !!..
وانطلقت القراءات الأدبية وانطلق معها الإكتشاف الآخر.. كتابات فرنسية الثقافة، لا اللغة فحسب، وإن توسلت بالتاريخ والجغرافية المغربية، واللافت في هذه السلاطة المكسيكية هوتوسلها بعناصر الكتابة الغربية الجديدة في اعتمادها المفرط على تنمية الجنس والشاذ منه على الخصوص مع تكسير ما يسمونه بالطابوهات من أسرة وعلاقات شرعية!!!..
ووجدتني أغادر قاعة الندوة أمام غيرتي العقدية التي لم تسعفني على المزيد من المرابطة أمام وجوه – (ألله أعلم بنياتها ولا أزكي نفسي إزاءها)-، أما ظاهرها فلا شك في استخفافه بتعاليم دين دولة وشعب وملك محمدي الجذور..
وتلقفني الشارع والهواء البارد وظلت تلك السحنات الباريسية الهوى تلاحقني وأنا أعود بذاكرتي إلى تفاصيل الحملة الشرسة، المترصدة للحجاب وللمتحجبات.. ياألله ألهذا الحد يتغرب شرع الله بين بنيه وأهله، وهل تسحق مشاعر الضعفاء، إلى حد استهوان خصوصياتهم الربانية المنبع، وإرغامهم في المقابل على التهافت على فتاته وأسقامه؟؟..
2- “لا مومسات ولا خاضعات”
لعلك قارئي تستغرب لهذا العنوان الوقح في صياغته، فلتعلم أن هذا العنوان هوإسم لجمعية مغاربية أسست ببلاد المهجر وتحديدا بفرنسا، وقد أسستها كما قلنا نساء مغاربيات هن عضوات بالحزب الإشتراكي الفرنسي! الذي دفع في اتجاه تأسيس جمعية من هذا النوع (كما تقول الصحف الفرنسية نفسها) لسد الطريق على الجمعيات الإسلامية، واللافت في هذه الجمعية بالمحصلة هودفاعها عن كل القضايا النسائية للنساء وعلى رأسهن النساء المهاجرات باستثناء قضية الحجاب!..
وإذا عرف السبب بطل العجب، فصاحبات الجمعية وبكل بساطة يعتبرن الحجاب زيا ظلاميا متطرفا وعدوانيا وطائفيا وبالتالي فلم يكلفن أنفسهن عناء الدفاع عن بنات جلدتهن ضد التمييز الفرنسي الذي يطال حرية من الحريات الأساسية، وهي حرية اللباس والمعتقد..
وقد عرضت عليك قارئي باختصار شديد في هذه اللوحة الثانية من مقالي بعضا من معالم نضال نسائي مستلب ومنحازإلى أطروحة المستعمر في التعاطي مع قضية الحجاب، ولك قارئي أن تستنتج المغزى من أن ترفع نساء مسلمات، شعارا من هذا النوع، شعارا يرفض وضعية المومس ووضعية المرأة الخاضعة كوضعيات دونية وتشييئية للمرأة، وفي المقابل يرفضن الحجاب الساترالمدعم للعفة والوقار، ويقبلن اللباس الغربي الكاسي العاري المستفز للغرائز ويعتبرنه حرية وانعتاقا!!..أليس هذا هوالتمزق بعينه!!.. أليس مؤلما أن يعتبر الزي الشرعي زيا طائفيا والزي الإستعماري زيا عصريا ولائقا ؟؟..
ألسنا إزاء حرب بالوكالة تشحن فيها بطاريات فكر أبنائنا لضرب الأمن الأخلاقي للأمةفي اتجاه تقويض معالم استقرارها من الداخل، مرة باحتضان الطاقات الثقافية لبلداننا وفتح فضاءات النشر والإنتشار في وجهها، ومرة بفتح أبواب المؤسسات السياسية لإنخراطها وبالتالي كسب ولائـها اللامشروط إلى جانبها في مشارعها التوسعية الموجهة إلى بلداننا كما هوالشأن بالنسبة لهذه الجمعية المغاربية وغيرها كثير..
وصدق الكاتب الكبير حفظه الله “المهدي المنجرة” حين قــال في إحدى فقرات كتابه : (إنتفاضات في زمن الذلقراطية) : “هناك حرب حضارية صغرى علينا أن نتغلب عليها قبل أن نواجه الحرب الحضارية الكبرى. وهناك مسؤولية للمثقفين وللنخبة لتجاوز أولا الإستيلاب الحاصل لديهم لدرجة سيئة من الإنتهازية بل وأحيانا إلى مستوى الإرتزاق الذي يلاحظه الناس أجمعون”.
3- سقط القناع عن الأقنعة
في إحدى المقالات التي قرأتها مؤخرا بقلم كاتب تونسي يبدي فيها ارتياحه لموجة التحجب الشبابية النسائيةالجديدة، أعرب الكاتب عن اعتقاده أن الحجاب الجديد غير عدواني وأنه يشكل إختيارا روحيا فرديا، ومطلبا أثيرا لركوب قطار الزواج والإفلات من لعنة العنوسة، وأن هذا الحجاب يقطع مع الحجاب المستند إلى قداسة النص، فالمحتجبة الجديدة قد لا تصلي ولا تصوم ولا علاقة لها بالشؤون العامة!!
وبغض النظر عن النفس العلماني الذي يكتنف مضمون هذه الفقرات، فالملاحظ أن تصور العبيد كتصوّر الأسياد في الغرب يتفق في الإنتصار للزي الإسلامي الممسوخ والمستقيل من هموم الأمة وتطلعاتها للحرية والكرامة وبالتالي فإن استشهادية فلسطينية تفجرنفسها فداء لوطن مسلوب هي إرهابية فحسب، وهي إرهابية حتى وإن كانت عضوا في الوكالة الفضائية الدولية ناسا أوعالمة في الطاقة النووية، إن كانت متحجبة وتؤمن بالخصوصية الحضاريةلأمتها، وترفض الإستعمار واستحمار الشعوب تحت أي شعار كان!!.
وعوْدًا على بدء فلا غرابة أن يتحدثالكاتب إياه بلهجة الإرتياح، عن حجاب جديد يكسر قداسة النص، فتلك لهجة الإستعماريين المتحكمين في قلبه ولسانه وكتاباته عن بعد ومن وراء البحار، بل تلك أمنيتهم المثلى أن يموت كتاب الله سبحانه في قلوب المسلمين فيصبحوا كقالب الحلوى طيعين لكل العجائن والوصفات.
وأولئك الكتاب الذين نسأل لنا ولهم، حسن الأوبة، هم الذين قال فيهم سبحانه وتعالى : {ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لايقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهوينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لايعلمون وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهوكل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هوومن يأمر بالعدل وهوعلى صراط مستقيم}.
وللعاملين في هذا الورش الرسالي العملاق أن يطمئنوا إلى الولاية الربانية وإن تعددت سيناريوهات التكالب على هذا الدين وأهله، إن ربك لبالمرصاد للمصرين على العداء للدين الإسلامي من الدهاقنة، أما المغرر بهم من الصغار، من أبناء جلدتنا، فجهد التبليغ من طرف أهل الدعوة الصادقين كفيل بإجلاء الغشاوة عن قلوبهم وأبصارهم.. قال تعالى : {قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيثُ لا يشعرون}..
ولحديث الحجاب بقية بإذن الله.
ذة.فوزية حجبي