<خامسا : أنه مخالف لقوله : >الولد للفراش وللعاهر الحجر<، وهو حديث متفق عليه رواه أكثر من عشرين صحابيا عن رسول الله وأخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن والمسانيد وتلقته الأمة بالقبول.
وهو دليل على لحوق الولد بالزوج وثبوت نسبه ولو حملت به الزوجة من زنا كما يدل على ذلك لفظ الحديث وتعليله.
أما لفظه فإن قوله >الولد للفراش< هكذا بصيغة التعريف يدل على العموم أي كل ولد لاحق بصاحب الفراش سواء حملته الزوجة من صاحب الفراش أو غيره وهو ما أكده قوله و>للعاهر الحجر< المفيد أنه ليس للزاني إلا الرجم أو الخيبة والحرمان على الخلاف في ذلك بين العلماء.
وأما التعليل فإن قوله : >الولد للفراش وللعاهر الحجر< إيماء كما يقول الأصوليون إلى أن علة لحوق الولد بالزوج هي الفراش وعلة انتفائه عن الزاني هي العهر والعلة يلزم من وجودها وجود الحكم،وهي موجودة هنا فيجب إلحاق الولد بالزوج ولا ينتفي عنه إلا بلعان، بل ذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا ينتفي عنه ابدا لا بلعان ولا غيره تمسكا بظاهر هذا الحديث وعمومه، وإن كان رأيا شاذا يرده حديث ابن عمر ] من رواية مالك أن رسول الله لاعن بين رجل وامرأته انتفى من ولدها ففرق رسول الله بينهما وألحق الولد بأمه. فإن هذا حديث خاص وحديث >الولد للفراش< عام، ومن القواعد الأصولية أنه إذا تعارض العام والخاص يقدم الخاص على العام ويخصص به في صورة التعارض، ولذا قال الجمهور >الولد للفراش< إلا أن ينفيه الزوج بلعان.
<سادسا : أنه مخالف لما ثبت عن عمر ] في أولاد الإماء من إلحاقهم بالسادة إذا اعترفوا بوطئِهِنَّ ولو زنين ولم يعرضهم على القافة خبرة العصر يومئذ.
ففي سنن سعيد بن منصور عن عمر ] أنه قال : أيما رجل غشي أمته ثم ضيعها فالضيعة عليه، والولد له.
وفي رواية أنه قال : حصنوا هذه الولائد، فلا يطؤ رجل وليدته ثم ينكر ولدها إلا ألزمته. وفي رواية أخرى أنه مر على غلمان على بير يدلون فيها، ومعَهم أمة تدلي معهم، فقال : ها. لعل صاحب هذه أن يكون يصيب منها ثم يبعثها فيما ترون، أما إنها لو جاءت بولد ألحقناه به. رواه سعيد بـــن منصور فـــي سننه 2/63-64
وفي رواية أخرجها ابن عبد البر في التمهيد عن عمر ] أنه قال : “لاتأتي وليدة يعترف سيدها أن قد ألم بها إلا الحقت به ولدها، فأرسلوهن بعدُ أو امسكوهن “(التمهيد 8/184). وهذه الأخبار كلها تدل على أن الولد يلحق بصاحب الفراش ولو أنكره ولا يُعْرض على القافة، وإذا كان هذا في الأمة فالزوجة أولى إلا أن ينفيه بلعان.
< سابعا : أنه مخالف لقول ابن عباس ] : “إذا زنت الزوجةُ لا ُيمنع الزوج من وطئها. وما حصل من ولد منه أو من غيره فيلحق نسبه به”(موسوعة فقه ابن عباس 2/29).
وهو نص صريح في لحوق الولد بالزوج بمقتضى الزوجيةوإن علم كونه من غيره، فلا تبقى فائدةٌ للخبرة ما دام الولد لاحقا بالزوج في كل الحالات كان منه أو من غيره. إلا أن يَنْفِيَه بلعان.
<ثامنا : أنه مخالف لإجماع الأمة على لحوق الولد بالزوج إذا جاءت به بعد مضي أقل مدة الحمل من تاريخ العقد كما يقول الحنفية أو من تاريخ الدخول كما يقول ابن تيمية، أو من تاريخ إمكان الوطء كما يقول الجمهور، أو جاءتْ به قبل مُضِيِّ اقصى أمَدِ الحمل من تاريخ وفاة الزوج أو طلاقه ولا ينتفي عنه إلا بلعان عند الجميع.
قال ابن الحاج : أجمع عامة أهل العلم أن الرجل إذا نكح امرأة نكاحا صَحيحا ثم جاءت بعد عقد نكاحها لستة أشهر بولد أن الولد لاحق له إذا أمكن وصوله إليها، وكان الزوج ممن يطأ.(المعيار 4/516).
وقال في التمهيد : وأجمعت الجماعة من العلماء أن الحرةَ فراشٌ بالعقد عليها مع إمكان الوطء وإمكان الحمل. فإذا كان عقدُ النكاح يمكن معه الوطءُ والحملُفالولدُ لصاحب الفراش لا ينتفي عنه أبدا بدعوى غيره ولا بوجْهٍ من الوجوه إلا بلعان.(التمهيد 8/183).
يعني لا ينتفي بدعوى الزاني إنه ابنُه كما قضى رسول الله بذلك في ابن وليدة زَمْعَة، ولا بإخبار القافة وشهادتهم بأنه لغيْر الزوج كما قضى بذلك عُمر ]، ولا بإقرار الزوجين أنه من الزنا كما قضى بذلك عثمان ]، ولا بأي وجه من الوجوه الأخرى المستحدثة كالخبرة الطِّبِيَّة أو البَصْمَة الوراثيَّة. ولا ينتفى إلا باللعان، وباللعان وحْدَهُ الذي جعلَهُ الاسلامُ الوسيلة الوحيدة لنفْيِ من وُلد على فراش الزوجية إذا ثبتت الزوجية وأمكن معها الوطء والحمل.
هذا محل إجماع كما قال ابن عبد البر وغيره. والاعتماد على الخبرة الطبية أو البصمة الوراثية لنفي الولد خَرْقٌ للإجماع.
<تاسعا : إن أقصى ما تفيده الخبرة في حال صحتها وصدْق القائمين بها أن الزوج عقيمٌ لا يولد له إذا كان عقيما، أو أن هذا الولد خُلِق من نُطفة غيره إذا كان غَيْر عقيم.
وكلاهما لا يصح الاعتماد عليه في نفي النسب وعدم إلحاق الولد بالزوج.
أما الأول وهو إثبات عُقم الزوج فلا يعتد به لما نص عليه فقهاؤنا من أنه لا يجوز للزوج الاعتماد على عقمه لنفي الولد إذا لم يكن استبرأ زوجته بحيضة أو ثلاث على الخلاف قبل ظهور حملها ولا يُمَكَّن من ذلك.(الزرقاني 4/190) ولما قاله الشافعية أيضا من أنه لا يعتمد على عقمه إلا أن يُخْبره مَعْصُوم.(نهاية المحتاج وحواشيه 7/107).
وإذا كان لا يجوز للزوج اللعانُ ولا ُيَمَّكن منه لنفْي الولد اعتمادًا على مجرَّد العقم، فكيف يصح الاعتماد عليه وحده بدون لعان في نَفْي الولد.
وأما الثاني وهو إثبات أنه تخلَّق من نطفة غير الزوج فإنه لا يصح الاعتماد عليه شرعا إجماعا.
>أولا : لما روي عن عمر ] أنه سال قائفا عن ولَدٍ فقال له : النطفةُ لفلان، والفراشُ لفلان، فقال له عمر: صدقت، ولكن قضى رسول الله بالفراش.
ففي سنن سعيد بن منصور وابن ماجة والأمِّ للشافعي والبيهقي ومسند الحميدي عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه أن عمر ] أرسل إلى شيخ في دارهم. قال : فانطلقتُ معه. فسأله عن ولاد من ولاد الجاهلية فقال : أما النطفة فلفلان، وأما الفراش فلفلان. فقال عمر : >صدقت ولكن قضى رسول الله بالفراش<(سنن سعيد 2/79. الأم 5/658)
>وثانيا : لما روي عن عثمان بن عفان] من إلحاق الولد بالزوج بالرغم من اتفاق الزوجين على أنه من الزنا، وبالرغم من شَبَهِه الشديد بالزاني ومخالفته لون الزوج الذي أنكره.
روى أبو داود بسنده عن رباح قال : زوجني أهلي أمَة لهم رومية، فوقعت عليها. فولدت غلاما أسودَ مِثْلِي، فسميتُه عبد الله، ثم وقعتُ عليها فولدتْ غلاما أسود مثلي، فسميته عُبَيْد الله، ثم طَبَنَ لها -خدَعها- غلام لأهلي روميٌّ يقال له يوَحَّنا، فراطنتْه بلسانه، -تفاهمتمعَه بلغتهِمَا- فولدت غلاما كأنه وزَغَةٌ من الوزغات فقلت لها : ما هذا؟ فقالت. هذا ليوحَنا، فرفعنا إلى عثمان، قال : أحسبه قال مهدي :
فسألهما فاعترفا فقال لهما : أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله ؟، إِنَّ رسول الله قضى أن الولد للفراش. وأحسبه قال : >فجلدها وجلده وكانا مملوكين<(سنن أبو داود 3/283).
فهذا اعتراف من الزوجين أن الولد من الزنا، وشواهدُ الحال تدلُّ على صدقهما لمخالفة الولد لَوْنَ الزوج وموافقة لَوْنَ الزاني ومع ذلك ألغى عثمان ] هذا الاعتراف والشَّبَه وأْلحَقَ الـولدَ بالزوج وقال : إنه قضاء رسول الله ، ولم يعرض الولد على القافة مع وجودها واستمرار العمل بها. ولا يُعرف له مخالفٌ من الصحابة فكان إجماعا سكوتيا.
وإذا لم يُقبل الاعتراف من الزوجين كما قضى عثمان، ولم يُقْبل قولُ القافة كما قَضَى عمر ] فإن الخبرة الطبية مثلُهما لا يجوز الاعتماد عليها في نفي النسب الثابت بقضائه الولد للفراش. والفراشُ موجودٌ.
<عاشرا : إن أقصى ما تفيده الخبرة الظَّنُّ بأن هذا الولد لَيْسَ من نطفة الزوج في حالة تخلقه من نطفة غيره. ولاوجود لخبرةٍ تفيد القَطْع كما يُقال جزافا.
>أولا : لأنها تحتمل الخطأ في التحليل، والتلاعُبَ في النتائج. والاحتمالُ وإن ضعف فإنه يُنَافي القطعَ.
> وثانيا : لأنها خَبَرُ آحاد ضرورة أنه لا يُجريها -يقوم بها- عَدَدُ التوَاتُر من الخبراء، وخبر الواحد إنما يفيد الظن ولا يفيد العِلم والقطْعَ كما يقول الأصوليون.
فأين هو هذا القطع الذي تعطيه خبرة خبير واحد، أو اثنين، أو ثلاثة، قد لاتتحقق فيهم شروط الشهادة في أبسط الحقوق، فكيف بالنّسب الذي لم يقبل العلماءُ في الشهادة بثبوته إلا رجلان عدلان. ولم يقبلوا فيه الشهادة على نَفْيِه منْ أحد.
وإذا كانت الخبرة لا تفيد إلا الظن كما ترى فَإِنَّ الزواج يفيد القطع بلحوق الولد بالزوج وثبوت نسبه له شرعا كما نص على ذلك الفقهاء.(نوازل العلمى 2/406).
ويدل لذلك :
أ- اشتراطهم في شهادة النسب أن تكون على القطع والبَتِّ أن فلانا هو ابْنُ فلان. وردهم الشهادةَ بالظن.
ب- أن المشهود له بالنسب لا يحلفُ مع بينته، ولو كانت الشهادة بالنسب بالظن والظاهر لوجَبَ عليه أن يحْلِف للقاعدة المشهورة : أن كُلَّ من شُهِدَ له بالظاهر فإنه يحْلف على موافَقة الظاهر للباطن.
وإذا كانت الخبرة لا تفيد إلا الظن بنفي النسب، والزوجيةُ تفيد القطعَ بثبوته شرعًا فإنه يجب إلغاء نتيجة الخبرة والعمل بمقتضى الزوجية.
>أولا : للقــــاعدة الأصولية : أنـــــــه لا تعارض بين مظنون ومقطوع. وأن القطعيَّ يُقدم على الظني.
>وثانيا : للقاعدة الأصولية والفقهية أيضا : أن المثبت مقدَّم على النافي.
>وثالثا : فلأن المدار في ثبوت النسب ونفيه في الاسلام هو النكاحُ الشرعي لا الُّنْطفةُ.
ولهذا قدم عمر ] الفراشَ على القافة -الخبرة- وقدم عثمان ] الفراشَ أيضا على اعتراف الزوجيْن واتفاقهما على نفي نسب ولدهما كما سبق.
<الحادي عشر : أنه مخالف للقواعد الأصولية في العلّة، والسبب، والمانع، التي تشترط في الجميع أن يكون وصفا ظاهرا غير خفي، وأن العلة والسبب يلزم من وجودهما وجودُ الحكم ومن عدمهما عدمُه.
ومن هنا أجمع الفقهاء على أن علة لحوق الولد بالزوج هو الزواج بشرط إمكان الوطء أو بشرط الدخول، أو مجرد العقد. ولم يقل أحد أن العلة هي تخَلُّقُه من نطفة الزوج، لأنه وصْفٌ خَفِيٌّ لا يُطَّلَعُ عليه فلا يصح التعليل به، وهويدل عليه حديث : >الولد للفراش< فإن فيه إيماءً إلى أن الفراش هو العلة.
وإذا كان الزواج موجوداً كما هو الموضوع فإنه يجب إلحاق الولد بالزوج عملا بقاعدة : العلةُ والسببُ يلزم من وجودهما وجودُ الحكم.
ولا يصح أن يكون تخُّلُّقُه من نطفة غيره مانعا من ُلحوقه به على تقدير ثُبوتِ ذلك بالخِبرة لأنه وصفٌ ضعيفٌ، والمانعُ من شرطه أن يكون وصفًا ظاهرًا غير خَفِيٍّ.
ولهذا رأينا عمر وعثمان ] قضيا بلحوق الولد بالفراش رغم تخلُّقِه من نطفة غيره بشهادة القافة -الخبرة- واعتراف الزوجيْن والقرائن القوية على ذلك. ولهذا قال : الولد للفراش. هكذا بصيغة العموم الشامل لمن تخلق من نطفة الزوج صاحب الفراش، ولمن تخلق من نطفة الزاني، كلاهما لاحق بصاحب الفراش إلاَّ أن ينفيَهُ بلعان.
د.محمد التاويل