2- في تاريخ الصراع بين ثقافتي الرحمة والاستكبار
كان الانسان في مراحل حياته الأولى يعيش على ثقافة الرحمة، وعلى حضارتها، فيما يرويه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، مرفوعاً إلى رسول الله : >كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيئِين مبشرين ومنذرين(1).
بمعنى أنه بالانحراف عن التوحيد، وجد الشركُ، ووجد الاختلاف بين الجماعات البشرية، فكانت ثقافة الاستكبار في مواجهة ثقافة الرحمة، ظهر شرك العقيدة وشِرْك العبادة أولاً، فعبدت الأصنام مع الله تعالى أو دونه، وعُبِد الشر المُتألِّه في عدد من الحضارات كنمرود بابل، معاصر إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلم، خلال القرن التاسع عشر قبل الميلاد، وكفرعون مصر معاصر موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام خلال القرن الثالث عشرقبل الميلاد؛ لقد دعا إبراهيم الخليل النمرود إلى الإسلام وقال له : الله تعالى هو الذي يحيي ويميت، فأجاب النمرود بأنه هو أيضا يحيي ويميت، {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربّه أن آتاه الله المُلك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحْيي وأُميت}(البقرة : 257).
ودعا موسى فرعون مصر إلى الإيمان بالله ورسوله فأجاب الفرعون {لئِن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين}(الشعراء : 28)، ثم ظهر شركُ التشريع، فشرّع للناس البشر المتأله من أمثال النمرود والفرعون وشرّع الوسطاءُ الذين يدّعون أنهم يجمعون جانباً ناسوتياً يتصل بالناس إلى جانب لاهوتي يتصل بالآلهة وهؤلاء هم الكهنة وسدنة المعابد الذين يشرِّعون للناس ما يخالف شرع الله، باسم آلهتهم، فكانت الجاهلية التي تعني الرضا بوضع نفسي واجتماعي يحتكم لغير شرع الله عز وجل فالتشريع حق من حقوق الله تعالى على عباده، ومن خصائِصالألوهية الحق وحدها، لأنّه مظهر من مظاهر العبادة {إن الحُكم إلا لله أمر أَلاّ تعبدوا إلا إيّاه ذلك الدّين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}(يوسف : 40)، {أفحُكْم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون}(المائدة : 52).
üüü
بدأت ثقافة الاستكبار، لأول مرّة في تاريخ البشرية، كما سبقت الاشارة(2)، مع قوم نوح عليه الصلاة والسلام، فقد دعا نوح قومه إلى الإسلام : {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم}(الأعراف : 58).
فأجابه القوم : {أنُومن لكَ واتّبعك الأرذَلُون}(الشعراء : 111). ثم حثّ المستكبرون قومه على الثبات لعبادة الأصنام، وإلا يسمعوا لنوح الذي وصفوه بالضلال المبين {قال الملأ من قومه إنا لنراكَ في ضلال مبين}(الأعراف : 59). وقالوا : {لا تذرنَّ آلهتكم ولا تذرُنّ وُدّا ولا سُواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً وقد أضلوا كثيراً}(نوح : 23).
وصبر نُوح، عليه السلام، خمسين وتسع مائة سنة، يدعو قومه إلى الإيمان بالله وبرسوله، دون جدوى، ولما يئِس من استقامتهم، دعا عليهم بالاستئصال؛ لأنّ فطرتهم قد فسدت، فكان إصرارهم على أن يعيشوا حالة استكبار لا رجعة عنها : {ربّ إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائِي إلا فراراً وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً}(نوح : 5- 7)، {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً إنك إن تذرهم يُضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً}(نوح : 28- 29).
وكان الطوفان الذي أنهى وجود الكافرين من قوم نوح، عليه الصلاة والسلام، في نفس الآن نجّا الله نوحاً، والمومنين معه : {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون فأنجياه وأصحاب السفينة}(العنكبوت : 13- 14). وتتابع الصراع بين ثقافة الرحمة وثقافة الاستكبار مع أنبياء الله : هود، وصالح، وشعيب، وإبراهيم، ويعقوب، وموسى، وغيرهم، عليهم الصلاة والسلام تارة تنتصر ثقافة الرحمة، مع ازدهار الإيمان، وتارة تنتصر ثقافة الاستكبار، مع ضعف الإيمان وانحساره، في حياة الأنبياء، أو بعد وفاتهم، لكن الصراع كان ينتهي بإبادة أعداء الله ورسله : {فكلاّ أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً(3)، ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغْرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}(العنكبوت : 40).
üüüü
وجاءت فترة تعتبر أحلك فترة في تاريخ الصراع بين ثقافة الرحمة وثقافة الاستكبار، وذلك يوم أن حلت توراة عزْرَا بن سرايا محل توراة موسى، عليه الصلاة والسلام، فمنَحَتْ توراة عزرا هذه اليهود امتيازاً : أن لهم إلههم الخاص بهم إسمه (يهْوَلاْ)، ووصفتهم بأنهم شعب الله المختار الذين أرواحهم جزء من روحالله، بينما أرواح بقية البشر من أرواح حيوانية في جسم من صورة إنسان، ومن هذا التزوير صار الأنبياء يقتلون بفتاوى تصدر عمن يعتبرون أنفسهم ورثة الأنبياء، لقد قتل زكرياء وابنه يحيى عليهما الصلاة والسلام، بفتاوى الستهدرين (المجلس الأعلى اليهودي)؛ وبنفس الفتوى صدر الحكم على نبيّ الله عيسى بن مريم، عليه الصلاة والسلام، بالإعدام، والصلب؛ وجرت المحاولة للتنفيذ، لولا أن تدخل الله عز وجل فرفع رسوله عيسى بن مريم إلى السماء، وألقى شبهه على عدُوِّه : يهوذا الأخسر يوطي الحواري في الظاهر، عدو عيسى بن مريم في باطنه، على غرار ما سيكون بجانب خاتم النبيئين محمد بن عبد الله، عليه الصلاة والسلام منافق عربي، إسمه عبد الله بن أبيّ بن سلول : {وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبِّه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلا اتّباع الظّن وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً}(النساء : 156- 157)، {إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيئين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشِّرهم بعذاب أليم}(آل عمران : 21).
وبعد الظن بقتل عيسى بن مريم أُفرغت رسالته في الثقافة الهيلينيستية التي جمعت كل وثنيات العصر من الشرق والغرب، فعل ذلك يهودي من مدينة طرسوس بجنوب تركيا، إسمه اليهودي شاوول، وأصبح اسمه المسيحي بُوِلُس؛ فعل ذلك ما بين سنة 50– 60م، وتبعه على ذلك المجامع الكنسية، ثم الأناجيل، وخاصة الأربعة المتداولة اليوم، وكانت النتيجة أن عيسى بن مريم الذي جاء لينقذ بني إسرائيل من الوثنية، التي انحدورا إليها، أصبح هو وثناً يعبد من دون الله عز وجل، ولقد فضح القرآن وأدان هذا التشويه لرسالة وشخصية عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم، وقال المسيح : يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد}(المائدة : 74- 75).
وعانت البشرية الويلات من ثقافة الاستكبار ومن النتائج المترتبة عليها، بما تضمنته من شرك العقيدة، وشرك العبادة، وشركِ التشريع، ويكفي كمثال : أن أمبراطور بيزنطة نيُرون أحرق جزءا مهما من عاصمة ملكه روما، ذات المليونين من الساكنة، ليوسِّع قصره، وليجمِّل المدينة، ثم نسب جريمة الإحراق للميسيحيين ليبرر إبادتهم(4).
——-
1- مستدرك الحاكم، ج2، ص 596، صححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
2- انظر الحديث السابق الذي أخرجه الحاكم في المستدرك.
3- الحاصب : حصى صغيرة كانت تنزل من السماء.
4- المسيحية والاسلام والاستشراق، ص : 253.
د.محمد الحبيب التجكاني