بعد فترة الازدهار العلمي الذي كان وصل إلى أوجه في عهد ابن الهيثم والبيروني وابن سينا بدأ نور العلم يخبو وتوقف لعدة عقود وبدأت تظهر ومضات هنا وهناك في الشرق وفي الأندلس ومن أهم العلماء الذين برزوا في تلك الفترة نذكر منهم على سبيل المثال :
1- ابن رشد(1126- 1198): يعد من أعظم فلاسفة المسلمين ولقب بالشارح لما قام به من شرح كتب آرسطو ومن أهم مؤلفاته “السماء” ، “الكون والفساد” و”الطبيعيات”، ولقد اشتهر ابن رشد بكتابه المعروف” تهافت التهافت” وهو الذي دافع عن أهمية العقل ومكانته في التحليل والاستنباط، وكان دائما يفصل بين الدين والعلم مما أدى به إلى استنتاج بعض النظريات الخارجة عن تصورات بعض العلماء المسلمين وأكد أن الكون يسير وفقا لقانون “الأسباب الغائية” وأن القوانين التي تسود العالم هي واحدة كما أكد أن الصورة والمادة هما أزليتان و بتعبير الفيزياء الحديثة ” حفظ المادة والطاقة” وهذا تعبير علمي منطقي.
ولقد لقيت أفكاره هذه معارضة شديدة من طرف العلماء لما وجدوه من تعارض بين آرائه وبعض الآيات القرآنية، وهذا يعبر عن التصادم الحاد الذي وقع بين علماء الدين أمثال الفرابي وابن سينا وابن رشد، والحق يقال إن نظريات هؤلاء الفلاسفة رغم خاصيتها العلمية المبنية على المنطق والتحليل كانت لا تعكس الحقيقة الكونية التي قدمتها الآيات القرآنية، ولكن كانوا على الأقل قد اجتهدوا وإن كانوا لم يصيبوا الهدف.
2- نصر الدين الطوسي (1201- 1247): وهو الذي أنشأ مرصد مراغة وجهزه بأحدث آلات الرصد ومن أهم مؤلفاته الفلكية كتاب “ظاهرات الفلك” و”زيج الشاهر” و”زيج الأيلخاني” و” زبدة الإدراك في هيبة الأفلاك”.
3- ابن الشاطر (1306- 1375) : له عدة مؤلفات منها “زيج الكواكب” و”تعليق الأرصاد” الذي فقد ولم يعثر عليه لحد الآن ولقد تطرق فيه إلىأحوال الشمس والكواكب، وكانت متطابقة مع نظريات بطليموس على الأقل فيما يخص الشمس وهو القائل في أحد كتبه منتقدا نظرية بطليموس: (إن بعض الباحثين في هذا العلم قد نصوا على بعض الشكوك اليقينية في شأن هذه المذاهب البطليموسية وقد وقعنا على شكوك أخرى في هذه النظرية عن طريق الرصد ومثل ذلك)، ونشير أن ابن الشاطر كان آخر الفلكيين المسلمين الكبار الذي عاش في عصر الانحطاط العلمي الإسلامي، ولقد تبلور عصر الإنحطاط العلمي فيما قاله ابن خلدون في مقدمته: (لقد سمعنا مؤخراً في أرض الفرنجة على السواحل الشمالية على البحر المتوسط حضارة عظيمة للعلوم الفلسفية، التي يقال إنهم يعبدون دراستها ويعلمونها في مدارس عديدة ويقال إنها واجبة وإن عدد من يعلمونها ويتعلمونها كبير. والله وحده أعلم بما يدور هناك ولكن الواضح الجلي أن مسائل الفيزياء لا تهمنا نحن في أمور ديننا فعلينا إذن أن نتركهم وشأنهم)، واستمرت هذه العزلة الفكرية منذ أيام ابن خلدون وأثناء الإمبراطوريات الإسلامية الكبرى مثل الإمبراطورية العثمانية، الإمبراطورية الصفوية في إيران، الإمبراطورية المغولية في الهند وغيرها. ولقد قال القنصل البريطاني في الإمبراطورية العثمانية “وليم ايتون” سنة 1800 :(إنهم يحبون (أي العرب والمسلمون) أن يتاجروا مع أولائك الذين يحضرون لهم بضائع مفيدة وثمينة تخلو من مشقة صناعتها).
ومن بين الأخطاء التي ارتكبها عدد كبير من علماء الدين في عصر الانحطاط العلمي وحتى في أواخر العصر الذهبي هي اعتبار الكون والطبيعة مجرد لوحة فيها حقائق ومشاهدات دون محاولة تفسير هذه الحقائق وتدوين هذه المشاهدات وصياغة قوانين رياضية لتفسير أسباب هذه الظواهر وتمكنهم من التعرف على المسببات التي تسير عليها الطبيعة والتي وضعها الخالق ليسير عليها الكون، فكانوا يعتبرون أن الكون إنما هو فيض من الذات الإلهية وأنه عملية تعقل من الخالق نفسه وأن هناك نفسا كونية تحكم الأرواح المحركة للأجرام ومن بين هؤلاء ابن سينا وإخوان الصفاوحتى ابن رشد الذي طالما دافع عن الفلسفة والعقل كان يقتصر على آراء آرسطو رغم أنها كانت تتعارض مع الإعتقاد الإسلامي كمسألة خلق الكون من لاشيء.
كما نجد أن ابن تيمية رغم عدائه للصوفية ورده إلحاد على الحلاج وابن عربي وأصحاب نظرية وحدة الوجود ” إلا أنه هاجم العلماء الفلكيين واتهمهم بالزندقة والنفاق واعتبرهم منجمين، فأنكر عليهم معرفة مواقع الكواكب ومنازل القمر وادعى أن مواقعهم في السماء تتأثر بدعاء المؤمنين وغير ذلك من النقد البعيد عن المنهج العلمي، وكان هذا “الخلط بين عالمي الغيب والشهادة” قد تفشى في الحضارة الإسلامية وعبر العصور وإلى يومنا هذا.
ويجسد ابن عطاء الله الصوفي هذا الخلط في قولته المشهورة:(أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شاهدته كانت الأكوان معك)، ويزيد فيقول: (فرق ما بين كونك مع الأكوان وكون الأكوان معك)، ويرى ابن عربي:”أن كل اكتشاف إنما يحصل من الإشراق الصوفي، الذي يرقى إليه المرء بواسطة الزهد…” وينكر أن يكون العقل معيارا للحقيقة في أي شيء.
إن المنهجية العلمية الصحيحة الدقيقة والهادفة قد ضاعت ولربما وجدت صعوبات كبيرة لأن تسلك طريقها إلى عقول المسلمين وذلك إثر الهجمات العنيفة التي تلقتها الطريقة العلمية الدقيقة من طرف علماء الدين من أمثال الغزالي وابن تيمية.
فعلينا أن نعيد عقارب الساعة إلى نصابها عملا بقوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ، ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار}.
د.محمد حمدون