د. المعتمد ابن رشد
بهذه المناسبة العطرة والعالم الإسلامي قاطبة يحتفل بالمولد الشريف لمن بعث للناس أجمعين، لا يسع المتأمل إلا أن يلاحظ مجموعة من المفارقات العجيبة والتحديات الجلية، ولعل أبرزها في هذه الأيام موقف الغرب المسيحي عموما حيث تجد تناقضا بارزا في التعامل مع الأنبياء: فهومن جهة يرفض المساس بالمسيح \ (كما رفضت ذلك الجريدة الدنمركية) ومن جهة يرفض النبي محمدا البتة …رغم انه “النبي المكتوب عندهم في التوراة والإنجيل!!” وهذا بكل تأكيد من أكبر التحديات. وقبل أن نخوض في ذلك كله لا باس من التذكير بحياة هذا النبي الكريم.
فهومن سلالة إسماعيل بن إبراهيم، ولد يتيما عام 570 (م) ثم فقد أمه فكفله جده ثم عمه. اشتغل راعيا فتاجرا واشتهر بين قومه ب”الأمين” فكان القرشيون يأتمنونه على أموالهم وحوائجهم وحكموه يوم وضعالحجر الأسود في الكعبة وهوشرف عظيم !! تزوج في سن 25 من السيدة خديجة عندما ذهب في تجارة أموالها علمت من أخلاقه ونبله. تحنث في غار حراء (أي اختلى للتفكير كما كان يفعل بعض العرب) وقد جاءه جبريل \ وهوالرجل الأمي ليلة القدر بالوحي أول مرة في سن ال 40 وأمره أن “يقرأ!!” ثلاث مرات بقوة. رجع إلى بيته مفزوعا يطلب الغطاء لينام فباغته مرة أخرى يأمره أن يقوم “فينذر”. فلما جمع قومه فوق جبل لينذرهم عن البعث والقيامة سبه عمه أبولهب ب”التَّب” (أي اللعنة) وبدأت معاناته ومعاناة أتباعه المريرة على يد قبيلته فتعرض هونفسه رغم شرفه وحماية عمه له للقتل مرارا وقد سلت قريش عليه سيوفها فهاجر مع صاحبه أبي بكر إلى المدينة في رحلة طويلة مضنية عبر الصحراء والشمس المحرقة وملاحقة الأعداء وسنه 52 . فلما وصل المدينة المنورة لم يخنع للراحة والمتاع بل شمر على ساعد البناء -بناء المسجد النبويالمبارك وبناء الدولة الخالدة وبناء التاريخ الإسلامي!! وقام بحروب دفاعية أشهرها “بدر” التي خاضها المسلمون لاسترجاع بعض أموالهم التي تركوها بمكة ومعركة “احد” التي قامت بطلب مكة الثار من محمد وآخرها غزوة “الخندق” التي تألب فيها المشركون العرب قاطبة واليهود لإنهاء الإسلام وصاحبه. وبعد 8 سنوات من الهجرة عاد محمد إلى مكة فاتحا منتصرا ووراءه 10.000 صحابي وعفا عن أعدائه ومحاربيه. وبعد 15 قرنا من وفاته يتبعه اليوم ما يناهز مليارا ونصفاً من البشر موزعة عبر القارات الخمس. من أخلاقه ومكارمه التي لا تكاد تحصى حرصه على رعاية الضعيف ونصرته، فلم يزل (ص) يوصي بالعبد واليتيم والجار والمرأة… “فاستوصوا بالنساء خيرا” (حديث). وقد اعترف بذلك كثير من المثقفين والعلماء المنصفين على اختلاف مشاربهم.
أما ذكر محمد في التوراة والإنجيل فانه من اكبر التحديات الفكرية على الإطلاق، فالمسلمون يسلمون بذلك انطلاقا من القرآن الكريم أما الطرف الآخر فيرفضه لأسباب لخصها الدكتور موريس بوكاي في ثلاث : أولها أن الفكر الغربي تسربت إليه ثلاث مسبقات PREJUDICES وهي :
أولا أن “الدين” يعارض العلم وينازعه.
وثانيا أن “الدين” هوالمسيحية واليهودية لا غير.
وثالثها أن محمدا نقل الإنجيل فحس !!.
أما التحدي الأكبر فهو: كيف يمكن لرجل أمي أن يتحدى اكبر العلماء؟ بل كيف يمكن لرجل عربي لا يقرأ حتى لغته أن يعرف ما كتب بلغة غيره في كتاب سري مدسوس عند أصحابه (لقرون) لا يجيزون لأحد الوصول إليه إلا إذا كان من أشرفهم وأعلمهم.
..بل أكثر من ذلك كيف يمكن لشخص -كيف ما كان حاله- أن “يُوحي” (أي يعلم) ما في جيب صاحبه ؟؟؟ هذا هوموقف محمد لما نزلت عليه الآية الكريمة : {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل}(الأعراف 157 ). فهوالأمي الذي لم يقرأ حتى لغته والتوراة بالعبرية وهي سر استمرارية اليهود عبر القرون فكيف يصل إليها رجل عربي أمي؟؟!!.
وقد كان من السهل عليهم أن يردوا التحدي بتحد اكبر فيقولون “تعال أرنا اسمك في كتابنا!!”، دون جدوى!! لقد جاء العلماء المسلمون فيما بعد ليبرزوا هذه الحقيقة بل منهم اكبر علماء بني إسرائيل أنفسهم وهوعبد الله بن سلام !!
لقد اتفقت التوراة والإنجيل على ذكر صفات النبي الأمي العربي محمد . جاء في سفر التثنية DEUTERONOMY 18 : 18 “سأبعث لهم نبيا من بين إخوانهم (أي العرب) مثلك وسأضع كلامي في فمه وسوف يحدثهم بكل ما آمره” .هذه الآية سبقها طلب بني إسرائيل رؤية الله جهرة فصعقوا ولما أفاقوا على اثر تلك التجربة القاسية طلبوا ألا تتكرر فوعدهم الله عوضا عنها برؤية نبي من إخوانه.
إلا أن بعض الأصدقاء المسيحيين يلحون على تأويل هذه الآية لتشير إلى عيسى \ رغم ما في “النبوة” من نفي ل”البنوة”، ويجعلون بذلك عيسى \ خاتم الأنبياء، إلا أن في كتابهم -أي الإنجيل- ما ينفي ذلك ، جاء في سفر يوحنا 1 : 21 :”وهذه شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم بعض الكهنة واللاويين يسألونه: من أنت؟ فاعترف ولم ينكر، بل أكد قائلا: لست أنا المسيح. فسألوه: ماذا إذن هل أنت إليا؟ قال: لست إياه. أوأنت ذاك النبي؟ فأجاب : لا!!” هذا لأهل الكتاب فما موقف اللاديننيين ؟
لقد اعترف بأخلاقه ومكارمه كثير من المثقفين والعظماء من المسيحيين وغيرهم. قال الكاتب الانجليزي الفريد غيوم ALFRED GUILLAUME في كتاب الإسلام: “لقد كان محمد من أعظم القادة عبر التاريخ وكان إيمانه راسخا في وجود الإله الواحد وأن على المؤمنين أن يكونوا أمة واحدة. ومما يدعوللذهول انه كرجل دولة استطاع أن يواجه مشاكل لا حد لها من التعقيد. فبالرغم من الجيوش والبوليس والخدام المدنيين لم يستطع أي عربي بعده أن يوحد العرب”.
يقول الزعيم الهندي ماهاتما غاندي MAHATMA GHANDHI : “لقد أردت أن اعرف أحسن من سيطر على قلوب الملايين…وأصبحت جد مقتنع أن السيف لم يكن سر ما حصل عليه الإسلام من مكانة في تلك الحقبة من الزمان. لقد كانت البساطة التامة وانعدام الأنانية عند النبي وحرصه الكبير على الأمانة وإخلاصه الكبير لأصدقائه وأتباعه وشجاعته وجرأته وإيمانه المطلق بالله وبرسالته. هذه وليس السيف المسئولة عن إزاحة كل الحواجز من الطريق”
وقال أشهر شاعر ألماني غوته GOETHE “إن كان الإسلام هوالاستسلام لله فكلنا نحيا ونموت مسلمين”.