4- ضوابط الإفتاء بالسعاية
ذ. الميلود كعواس
لا مراء بأن النوازليين الذين أفتوا بالسعاية قد راعوا مجموعة من الضوابط التي تضبط فتواهم، وتصونها عن الظلم والاعتداء على حقوق الآخرين، غير أني لم أجد لهم تنصيصا عليها، فدفعني ذلك إلى تتبع بعض فتاويهم رجاء الظفر ببعضها والتعريف بها حتى تكون معيارا نميز به بين من يستحق السعاية ممن يدعيها. وقد تحصل لي بعد تقميش وتفتيش جملة منها ما يلي:
- الضابط الأول: لا تجب السعاية إلا لمن أسهم في تنمية الثروة: فمن لم يعمل ولم يكد في مراكمة الثروة لا سعاية له، فقد سئل الإمام القوري عمن تخدم من نساء البوادي خدمة الرجال من الحصاد والدراس وغير ذلك فقال: “إن الزرع يقسم على رؤوس من نتج عن خدمتهم”(87). فتبين أن الخدمة شرط في استحقاق السعاية، وهذا ما أكده الشيخ أحمد البعل فقال: “جرى العمل في جبالنا هذه من فقهائنا المتقدمين بقسمة ذلك على الرؤوس ممن له قدرة على الخدمة، ومن لا خدمة له فلا شيء له”(88). وبه كان القضاء في جزولة، يقول امحمد العثماني: “فالجزوليين حيث تخدم المرأة يعطونها نصيبا في كل ما يدخل إلى المنزل، إذا شاركت في تحصيله بأي وجه بعد تقويم العرفاء”(89).
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما هي الخدمة المعتبرة في ذلك؟ هل كل عمل معتبر في استحقاق السعاية؟ وهل العمل المنزلي للمرأة داخل في ذلك أم لا؟
لقد تحدث العلماء عن عمل المرأة المعتبر في السعاية من غيره فقالوا: إن عملها له حالات(90):
1- عمل المرأة في مال زوجها: فعملها هذا معتبر في استحقاق السعاية سواء كان صناعيا (خياطة، نسيج، غزل،….) أم غير صناعي (زرع، حصاد، تربية الماشية…).
2- عمل المرأة مع زوجها في مال غيرهما مقابل أجر واحد بينهما، أو لحصة واحدة لهما، كالجزء من الغلة أو بحصة من الزرع… فالمذهب أنها شريكة للزوج في النصيب أو الأجر المعين لهما لاشتراكهما في العمل والعقد.
3- عمل المراة عند غيرها: تدر من خلاله مالا خاصا بها، ففي هذه الحالة تختص بكسبها، ولا حق لزوجها في ما حصلته من كد يدها، عملا بمبدأ استقلال الذمة المالية.
4- عمل المرأة في بيت زوجها: من كنس، وطبخ، وخبز، ورعاية، وتصبين… قال محمد التاويل : ..” لا يمكن اعتبارها (أي المرأة التي تعمل ذلك) شريكة للزوج في الأموال المستفادة بعد الزواج وليس من العدل اشراكها فيه، لأنها لم تشارك في إنتاج المال بوجه من الوجوه(91). والحق أن عمل المرأة في بيت زوجها من الأمور المختلف فيها بين الفقهاء على أقوال:
* أنه عمل لازم لها، فلا تؤجر عليه، لأنه من صميم واجباتها، قال ابن حبيب: “حكم النبي صلى الله عليه وسلم على فاطمة بالخدمة الباطنة من خدمة البيت، وحكم على علي بالخدمة الظاهرة”(92).وهو قول جماعة كأبي ثور(93)، والطبري(94)وغيرهما.
*أنه غير لازم لها، فتؤجر عليه إن عملت، إلا أن تتطوع، فقد سئل مالك هل على المرأة من خدمة نفسها أو خدمة بيتها شيء فقال: “ليس عليها من خدمتها ولا من خدمة بيتها شيء”(95)، وقال الطحاوي: “لم يختلفوا أن المرأة ليس عليها أن تخدم نفسها”(96).
* يلزمها إن كانت دنيئة، ولا يلزمها إن كانت شريفة، قال ابن خويز منداد “فإن كانت ذات قدر ومنزلة فخدمتها الأمر والنهي في مصالح المنزل، وإن كانت دنية فعليها أن تضم البيت وتفرش الفراش وتطبخ القدر، وإن كانت عادة البلد أن يستقي النساء الماء فعليها”(97).
* أنه يرجح إلى العرف: يقول ابن حجر: “والذي يترجح حمل الأمر في ذلك على عوائد البلاد”(98). وقد حدد ابن القيم العرف في هذا الباب فقال “والعرف خدمة المرأة وقيامها بمصالح البيت الداخلة”(99). وقال الفقيه أبو الفضل راشد: “يجب على نساء البربر الخدمة المعتادة عندهم لأنهن على ذلك دخلن”(100).
ويبدو أن القول الأولى والأصوب هو أن عمل المرأة في بيتها غير معتبر في استحقاق السعاية لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم على فاطمة(101)وأسماء(102)رضي الله عنهما بخدمة البيت ولم يطالب زوجيهما أن يكفياهما ذلك، كما أن العرف يحكم عليها بخدمة بيتها مما يزيد هذا الرأي قوة وصلادة.
- الضابط الثاني: لا حظ للساعي في السعاية إلا في عين المال الذي ساهم في إنمائه. فمن عمل في الغزل فلا سعاية له إلا في الغزل، ومن عمل في الزرع فلا سعاية له إلا في الزرع، فكونه ساهم في تنمية جزء من الثروة لا يوجب له حق السعاية في كلها، لما في ذلك من ظلم واعتداء على حقوق الآخرين، وفي هذا يقول الجشتيمي في العمل السوسي(103):
تمييز ما فيه نصـيب سعيهـا
من غيره مخافة من بغيها
إذ أخذها من غير ما قد عملت
ظلم مبين إثمه قد حملـت
قال شارحه: “ومن ماتت بعد مكثها لدى زوجها ثمانية أشهر وقد حرثت بيدها فلورثتها ما حرثته في سعايتها بقدر عملها في الحرث”(104). وقال العباسي في أجوبته: “فالذي جرى به العمل عند فقهاء المصامدة وجزولة أن الزوجة شريكة لزوجها فيما أفاداه مالا بتعنيتهما وكلفتهما”(105). قال السكتاني “وما استفاده المرء كشرطه، وكل ما انفرد بعمله فإنه يختص به عن غيره”(106)وهذا ما عبر عنه بعضهم في قوله(107):
وما به الزوج من الكد انفرد
لا حق للزوجة فيه يعتمد
- الضابط الثالث: أن تكون الثروة مكتسبة خلال الحياة الزوجية، فما اكتسبه كل من الزوجين، أو آل إليهما بطريق الميراث أو غيره سواء قبل الزواج أو بعده لا يعتبر في السعاية. يقول الفقيه سيدي عبد الله بن يعقوب ” وما كان للزوج قبل أن يتزوج لا سعاية لها فيه”(108). وقال الفقيه العباسي: “إن السعاية إنما تكون فيما استفيد في مدة الزوجية”(109)، ويؤكد داود بن محمد هذا الضابط قائلا: “فالذي جرى به العمل عند فقهاء المصامدة وجزولة أن الزوجة شريكة لزوجها فيما أفاداه مالا بتعنتهما وكلفتهما مدة انضمامهما ومعاونتهما”(110).
الضابط الرابع: ألا تكون مدة الحياة الزوجية قصيرة كالأسبوع والأسبوعين، بل حتى الشهر والشهرين، وقد وجدت في بعض فتاوى النوازليين أن الزوجة لا تستحق السعاية إلا إذا مكثت ثمانية أشهر فأكثر عند زوجها، قال الرحماني الجشتيمي: “ومن ماتت بعد مكثها لدى زجها ثمانية أشهر، وقد حرثت بيدها، فلورثنها ما حرثته في سعايتها بقدر عملها في الحرث”(111). وقال آخرون: عام فأكثر، وهو قول الفقيه أبي حفص عمر بن عبد العزيز الكرسيفي، قال: “لابد أن ينظر في انكحة الزوجات والبنات ليعلم من له سعاية ممن لا، فالزوجة تكتسب في ما حدث وتجدد بعد العام من تزويجها إلى الفراق بموت أو طلاق”(112). وهو قول عبدد الواحد بن محمد الأمزوري كذلك، قال:
وبعد عام سعيها يحيق *** في أشريات أخذها يليق(113)
- الضابط الخامس: ألا تأخذ من الثروة المتراكمة إلا بمقدار سعيها وكدها، يقول ابن ناصر الدرعي: “تأخذ المرأة قدر جريها مما زاد على ماله يوم تزوجها بحسب نظر أهل المعرفة بذلك”(114)، وبه أفتى غير واحد كعبد السلام بن أشغاف الوثيلي، فقد قال: “المرأة تأخذ مثل جريها”(115)وقد استند في ذلك إلى قول الإمام مالك وصحبه، قال: “قال الإمام مالك وأصحابه تأخذ مع الزوج من يوم تزوجها لا في الأصول ولا في غيرها على قدر عملها”(116). وهو ما حكاه السوسي عن الجزوليين قال: “ومعلوم أن الجزوليون حيث تخدم المرأة يعطون لها نصيبا في كل ما يدخل الدار بقدر سعيها”(117). وفي هذا يقول عبد الواحد الأمزوري(118):
وزوجة إن طلقت أو هلكـت
وأبرت أو حرثت أو حصـدت
بقدر حرث أو أبار أو حصاد
تقبض سعيا في مزيد مستفـاد
- الضابط السادس: لا حظ في السعاية إلا إذا استقر العرف على ذلك وجرى به العمل، فالفقهاء إنما أفتوا بالسعايةلأنهم وجدوا عرفا يقضي بذلك للزوجة وغيرها من السعاة. وهذا ما نص عليه أو زيد الفاسي في عملياته فقال(119):
قال ابن عرضون لهن قسمه
على التساوي بحساب الخدمـه
لكن أهل فاس فيها خالفـوا
قالوا لهم في ذاك عرف يعرف
قال الوزاني: “قالوا: أي ابن عرضون ومن وافقه من فقهاء الجبال لهم أي لأهل البوادي عرف في ذلك القسم المذكور يعرف بينهم، والحكم والفتوى تابعان للعرف”(120). فلما كان هذا العرف ثابتا جرى العمل به عند الفقهاء، يقول الوزاني في أجوبته: “وأما خدمة النساء في البوادي فالعمل جار بمشاركتهن ولا التفات لمن اعترضه”(121). غير أن هذا العمل يقصر على موضعه ومن الخطأ تعميمه، يقول الوزاني: “فالحق أن هذا العمل (أي الإفتاء بالسعاية) ثابت لا ينكر، نعم يقصر على أهل الجبال كما قالوا: “إن العمل الثابت بموضع لا يلزم جريانه في غيره”(122). وعليه فإن فتوى الفقهاء بالسعاية يقصر على نساء البوادي التي جرى العمل فيها بذلك ولا ينطبق لا في المدن ولا في غير العمل في الحقل(123).
- الضابط السابع: إثبات السعي في المال المتراكم، فليس كل من ادعى السعاية في المال يحكم له بذلك حتى يثبت السعي والكسب، وهذا ما قرره عبد الواحد الأمزوري نظما ونثرا فقال نثرا: “ومن ادعى الكسب في المال فأنكره خصمه فيه، على المدعي إثبات الكسب”(124)، وقال نظما(125):
من ادعى في المال كسبا وجبا
إثباته عليه عاتب من أبى.
————
(87)- نوازل العلمي. 2/101.
(88)- نفسه 2/102.
(89)- ألواح جزولة. ص: 70. انظر المعسول 17/42.
(90)- مقال لمحمد التأويل. جريدة المحجة ع: 129(21- 05- 2000.) المرأة بين أحكام الفقه والدعوة إلى التغيير. ص: 197.
(91)- جريدة المحجة. ع: 129. (01-05-2000.)
(92)- شرح ابن بطال على صحيح البخاري.لأبي الحسن ابن عبد الملك بن بطال.تح:عبد القادر عطا.ط:1. 2003 دار الكتب العلمية.بيروت. كتاب النفقات. باب خادم المرأة. 7/433.
(93)- فتح الباري بشرح صحيح االبخاري.لابن حجر العسقلاني.اعتنى به محمود بن الجميل.ط:1. 2003.مكتبة الصفا.القاهرة. كتاب النكاح. باب الغيرة. 9/405.
(94)- شرح ابن بطال.7/433.
(95)- المدونة الكبرى للإمام مالك بن أنس رواية الإمام سحنون. دار الفكر. 2/197.
(96)- شرح ابن بطال 7/433.
(97)- عقود الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة.لجلال الدين ابن شاس.تح: محمد أبو الأجفان و عبد الحفيظ منصور.ط:1. 1995.دار الغرب الاسلامي 2/300.
(98)- فتح الباري 9/405.
(99)- زاد المعاد في هدي خير العباد.لابن قيم الجوزية.تح: شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط.ط:14. 1992. مكتبة التراث الاسلامي.القاهرة 5/188.
(100)- نوازل العلمي 1/188.
(101)- أعني الحديث الذي رواه البخاري عن علي أن فاطمة عليهما السلام شكت إلى أبيها ما تلقى في يدها من الرحى فأتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادما فلم تجده فذكرت ذلك لعائشة فلما جاء أخبرته قالت: فجاءنا وقد اخذنا مضاجعنا فذهبت أقوم فقال مكانك فجلس بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري فقال: ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم؟ إذا آويتما إلى فراشكما أو أخذتما مضاجعكما فكبرا ثلاثا وثلاثين وسبحا ثلاثا وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين فهذا خير لكما من خادم” كتاب الدعوات. باب الكبير والتسبيح عند المنام. ح 6318.فلم يطالب عليا رضي الله عنه بتوفير خادم مما دل على أن خدمتها تلك لازمة لها.
(102)- أريد حديث أسماء رضي الله عنها الذي أخرجه البخاري عنها أنها قالت “تزوجني الزبير وماله في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير ناضح، وغير فرسه، فكنت اعلف فرسه، وأستقي الماء، وأخرز غربه، واعجن ولم أكن أحسن أخبز وكان يخبز جارات لي من الأنصار وكن نسوة صدق وكنت أنقل النوى من أرض الزبير…” إلخ. كتاب النكاح. باب الغيرة. ح: 5224. فلم يطالب الرسول عليه الصلاة والسلام الزبير بكفايتها ذلك.
(103)- شرح العمل السوسي. ص: 279.
(104)- نفسه. ص: 285- 286.
(105)- نظام الكد والسعاية. ص: 35.
(106)- شرح العمل السوسي. ص: 285.
(107)- نظام الكد والسعاية. ص: 267.
(108)- عمل المرأة في سوس. ص: 35.
(109)- شرح العمل السوسي. ص: 286.
(110)- نفسه. ص: 283.
(111)- نفسه. ص: 285-286.
(112)- عمل المرأة في سوس. ص: 33.
(113)- شرح العمل السوسي. ص: 284.
(114)- فتاوى تتحدى الإهمال 1/162- المنح السامية 3/304-305.
(115)- فتاوى تتحدى الإهمال 1/162.
(116)- نفسه.
(117)- المعسول 17/42.
(118)- شرح العمل السوسي. ص: 285.
(119)- المجموع الكامل للمتون. ص: 567.
(120)- تحفة أكياس الناس. ص: 276.
(121)- ابن عرضون الكبير. ص: 204.
(122)- تحفة أكياس الناس. ص: 281.
(123)- نظام الكد والسعاية. ص: 262.
(124)- شرح العمل السوسي. ص: 286.
(125)- نفسه. ص: 285.