الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد والآخرة، وهو الحكيم الخبير….
عباد الله : إن من الأخلاق الاجتماعية التي تدل على سمو المجتمع وتماسك بنيانه أن ينتشر بين أفراد الأمة خلق الأمانة. ورغم ما أصاب الأمة من تفسخ في الأخلاق وتجرد من القيم فإننا ما زلنا نرى المتحلي بالأمانة تمدحه الألسنة، وتميل إليه النفوس، أما الخائن فهو مذموم، مقيت، تُعرض عنه النفوس، وتُبغضه القلوب.
فما معنى الأمانة؟ وما حدودها؟ وما واقعها في حياتنا الاجتماعية؟
الأمانة خلق إنساني أصيل أقره الإسلام
وجعله شرطا من شروط الإيمان
إن خلق الأمانة خلق أساسي، ولازم رئيسي من لوازم الأخلاق للفرد والجماعة على السواء،. لذلك جعل الإسلام هذه الفضيلة شرطا من شروط تمام الإيمان وكماله، حيث قال : >لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له<.
والأمانة هي إحدى الخصال الحميدة التي فطر الله الناس عليها والأخلاق الكريمة التي بعث سيدنا محمد ليُتمّمها، وعلى هذا الأساس فهي طبع وسجيَّةٌ في الإنسان، شريعة بالسنة والقرآن. اشتهرت عند العرب قبل ظهور الإسلام، وكانت من بين أهم الفضائل، وأسمى الشيم التي أشاد بها ديننا الحنيف، ونوه بمزاياها، ودعا إلى المحافظة عليها، ورغّب في التحلي بها، حيث وعد الحافظ الأمين بالجزاء الحسن في الدنيا والآخرة، وتوعّد الخائن بالعقاب الشديد.
أدلة وجوب التخلق بخلق الأمانة
قال تعالى : {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها…}(النساء : 58) وفيه أمر من الله عز وجل بأداء الأمانة.
وقال الله تعالى : {قد افلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون، والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون، والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، والذين هم على صلواتهم يحافظون، أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون}(المؤمنون : 11- 11) وفيه بشارة من الله عز وجل لعباده المؤمنين بالفوز في الدار الآخرة بجنات النعيم لما تحلَّوا به من خصال حميدة منها الأمانة، ويتكرر هذا الوعد وهذه البشارة في قول الله تعالى : {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، والذين هم بشهادتهم قائمون، والذين هم على صلاتهم يحافظون أولئك في جنات مكرمون}(المعارج : 31- 35).
وروى الإمام أحمد وأهل السنن عن رسول الله قال : >أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك<.
وأخرج البيهقي عن ابن عمر ] عن النبي قال : >أربعٌ إذا كُنَّ فيك فلا عليك فيما فاتك من الدنيا : حفظ أمانة، وصدق حديث، وحُسن خليقة، وعِفَّة طُعمة<.
وأخرج البيهقي عن ميمون بن مهران : >ثلاث يؤدَّين إلى البر والفاجر: الرحم تُوصل برَّة أو فاجرة، والأمانة تؤدى إلى البر والفاجر، والعهد يُوَفى به للبر والفاجر<.
مجالات خلق الأمانة
عباد الله : إن كثيراً من الناس يَحْصُرون الأمانة في أضيق معانيها وحدودها أنها قيام الإنسان بحفظ ما يودع لديه من مال أو متاع، فإن حفظه حتى يعيده إلى صاحبه كان أمينا، وإن تلاعب به وضيعه وأنكره على صاحبه كان خائنا، لكن المعنى الصحيح للأمانة هو أوسع من هذا، فهو طاعة الله تعالى بأداء الفرائض التي شرعها للناس، امتثالا للأوامر واجتنابا للنواهي، وهو التزام بالواجبات الاجتماعية وحرص على أدائها خير أداء، وهو قيام بجميع التكاليف الأخلاقية، وهو صدق في القول وإخلاص في العبادة وإتقان في العمل وإحسان في المعاملة.
إنها أمانات متعددة تبدأ بالأمانة الكبرى التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان : أمانة الهداية والمعرفة والإيمان بالله عن قصد وإرادة… ومن هذه الأمانة الكبرى تنبثق سائر الأمانات : فالدين أمانة في أعناقنا، واجب علينا إقامته في نفوسنا أولا، وذلك بمجاهدتها وتربيتها على تمثله والتمسك به حتى نصنع من أنفسنا صوراً حيّة للإسلام والقرآن تدب على الأرض حتى يرانا الآخرون فيتأثرون بنا شعوراً وسلوكاً اقتداء برسول الله خير قدوة وأحسن إسوة، والذي كان خُلقه القرآن.
ولا يكفينا أيها المؤمن الكريم أن نقيم الدين في أنفسنا ونستأثر به وحْدَنا دون أن ندعو إليه غيرنا ونُظهر له فضله ومزيته ثم نسعى جاهدين لإقراره منهجا للبشرية جمعاء.
{وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}(البقرة : 143).
أيها المؤمن الكريم اعلم -رعاك الله- أن أنواعاً أخرى من الأمانات نحن مسؤولون عن حفظها، واجب علينا أن نؤديها ولا نضيعها ، فنفوسنا أمانة فيأعناقنا ونحن مؤتمنون عليها، ومطالبون بحفظها ورعايتها، وجلب السعادة لها، وتنعيمها بحياة طيبة في الدنيا وفوزٍ في الآخرة، وعتقٍ من النار {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة}(التحريم : 6).
وأرواحنا أمانة، واجب علينا أن نرعاها بالتربية والتزكية والتهذيب والتعليم {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها}، وعقولنا أمانة واجب علينا أن ننورها بالعلم ونغذيها بالمعرفة، ونحفظها من كل المخدرات والمسكرات السامة، والملوثات الفكرية الهدامة.
وأجسامنا أمانة، واجب علينا أن نشملها بالرعاية والعناية والتغذية حتى يطاوعنا على أداء العبادات، فلا نرهقها بالأعمال الشاقة ولا نسخِّرها في معصية أو نحرمها من طاعة، وكل حواسِّنا هي ودائع الله تعالى عندنا وحفظها من أوجب الواجبات علينا. روى أبو داود وابن حبان في صحيحه وغيرُهما عن أبي يونس مولى أبي هريرة قال : سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية {إن الله يامركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} ويضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينيه، ويقول : وهكذا سمعت رسول الله يقرؤها، ويضع أصبعيه، وقال أبيُّ بن كعب : >من الأمانات أن المرأة ائتمنت على فرجها<. ونحن نقول ليست المرأة وحدها وإنما الرجل كذلك لأن الله تعالى قال : {والذين هم لفروجهم حافظون} وجعل ذلك سببا من أسباب الفلاح في الآخرة {أولئك هم الوارثون الذين يرثونن الفردوس هم فيها خالدون}
وأزواجنا وأولادنا وآباؤنا وكل من نشترك معهم في أواصر القربى، ويلزمنا حفظُهم والنصح لهم، هم أمانة عندنا فإن رعَيْنا حقوقهم وبذلنا لهم النصح وأسدينا لهم الخير وأبعدنا عنهم الأذى كنا قائمين بالأمانة أحسن قيام.
وحقَّ المجتمع علينا في إشاعة الطمأنينة والسلام والخير فيه أمانة يلزمنا الوفاء بها، فإن لم نفعل ذلك كنا مسيئين إلى الناس خائنين لأماناتهم.
والرّعية في أيدي المسؤولين أمانة، فإن قاموا بما يجب عليهم نحوهم من نصح ورعاية وصيانة لكرامتهم وحريتهم كانوا أمناء أوفياء وإلا كانوا من أغش الناس وأكثرهم خيانة. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال : >سمعت رسول الله يقول : >كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده، ومسؤول عن رعيته، وقال : وحسبتُ أن قــد قال : والرجل راعٍ في مال أبيه، وهو مسؤول عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته<.
تحمل الأمانة مسؤولية عظيمة
وكل إنسان تحمل مسؤولية كيفما كانت أهميتهاومكانتها سواء كانت مسؤولية كبيرة أو صغيرة. وسواء كانت هذه المسؤولية حكما أو منصبا أو وظيفة أو عملا أو صناعة أو تجارة أو تربية، فهو مؤتمن عليها، وهي أمانة في عنقه، فإن أخلص العمل وأدى الواجب على أحسن حال حافظ على الأمانة، فرضي عنه العباد ورب العباد، وكان أثر ذلك على الأمة عظيما، وحسابه عند الله يسيراً، وثوابه جزيلا، وإن قصّر في الرعاية، وأهمل الواجب، خان الأمانة وأضرّ بالأمة، وجلب لنفسه سخط ا لناس وسَخط رب الناس، فكان حسابه عسيراً، وعقابة شديداً.
والأمانة بهذا المعنى هي سر سعادة الأمم أو شقائها، ويوم كانت أمتنا من أصدق الشعوب في حمل هذه الأمانة والوفاء بها، كانت خير أمة أخرجت للناس :
> سرقت امرأة عربية متاعاً في عهد رسول الله فجاء أهلها يستشفعون لدى الرسول ليُسقط عنها العقوبة، فغضب عليه السلام من هذه المحاولة ثم قال : >أيها الناس إنما أهْلَك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد، أما والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها<(رواه البخاري ومسلم).
فهذه هي أمانة الحاكم في تنفيذ القانون على الناس جميعا.
> واستدان ولد عمر بن الخطاب ] من أبي موسى الأشعري حين كان واليا على الكوفة أموالا من خزينة الدولة ليتاجر بها، على أن يردها بعد ذلك كاملة غير منقوصة، واتجر ولد عمر فربح، فبلغ ذلك عمَر، فقال له : إنك حين اشتريت أنْقَصَ لك البائعون في الثمن لأنك ولد أمير المؤمنين، ولما بِعْت زاد لك المشترون لأنك ولد أمير المؤمنين، لا جرم أن كان للمسلمين حق فيما ربحت، فقاسمه نصف الربح، واسترد منه القرض وعنّفه على ما فعل، واشتد على أبي موسى في العتاب، لأنه أقرض ولد أمير المؤمنين من أموال الدولة ما لا يصح أن يقع مثله.
وهذه هي أمانة الحاكم الذي يسهر على مال الشعب، فلا يحابي فيه صديقا ولا قريبا.
> وتوصلت عائشة رضي الله عنها بعطيتها السنوية من عمر ]، وقدرها مائة ألف درهم، فتصدقت بها كاملة، وكانت صائمة فقالت لها جاريتها : لو أبيقت لنا ما نفطر عليه اليوم فليس عندنا ما نأكله! فأجابتها لو ذكرتني لفعلت.
وهذه هي أمانة الغني المؤمن نسي جوع نفسه ليذكر جوع غيره من أبناء الفقراء.
فاللهم هيئ لهذه الأمة جنوداً مخلصين وأمناء أقوياء يعيدون لها عزها ويحفظون كرامتها وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
مزايا وفوائد التخلق بالأمانة
عباد الله : إن من مزايا الأمانة وفوائدها أن الأمين يحظى بثقة الناس جميعا : صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم، ثم إن الناس يختارونه لأداء مهامهم وتولية شؤونهم وتدبير أمورهم، فها هو الحبيب المصطفى قد عُرف في شبابه بين قومه بالصادق الأمين، واشتهر بينهم بحسن المعاملة، والوفاء بالوعد، واستقامة السيرة وحسن السمعة، وهذا ما جعل أهل مكة يرضون بحكمه في حادثة وضع الحجر الأسود في مكانه من الكعبة، ثم إن صدقه وأمانته رغّب خديجة رضي الله عنها في أن تَعرض عليه الاتجار بمالها، فلما لمست أمانته وإخلاصه، ورأت الربح الكثير، أضعفت له من الأجر، ثم حملها ذلك على أن ترغب في الزواج منه.
وهذا موسى عليه السلام يذكر عنه الله تعالى : {قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استاجرت القوي الأمين}(القصص : 26).
وهذا يوسف عليه السلام يقول عنه الله عز وجل {وقال الملك ايتوني به أستخلصه لنفسي، فلما كلّمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين، قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}(يوسف : 50).
ثم إن من أعظم مزايا الأمانة والتحلي بها أن وعد الله المحافظين عليها بالجزاء الحسن في الدار الآخرة. قال تعالى : {أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون}(المؤمنون : 11).
عواقب تضييع الأمانة والتفريط فيها
عباد الله : إن من ضيع الأمانة وفرط فيها يعتبر خائنا ويُعدُّ من المنافقين بالكتاب والسنة.
قال تعالى : {إن الله لا يحب الخائنين}(الأنفال : 58)، {إن الله لا يحب من كان خواناً أثيما}(النساء : 107)، {إن الله لا يحب كل خوان كفور}(الحج : 38)، وأخرج مسلم عن أبي هريرة ] أن رسول الله قال : >ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم : مَن إذا حدَِّّث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان< وعن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : >أربعٌ من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خَصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا ائتمن خان وإذا حدَّث كذب وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر<(رواه الشيخان، وأبو داود والترمذي والنّسائي).
فخيانة الأمانة ظلم كبير، والخائن تنزع منه الثقة، فلا يأمنه الناس على متاع ولا مال ولا عرض ولا يحظى بالتزكية في الترشيح لمسؤولية أو الاختيار لمهمة، ومن ضيع أمانة العباد فقد تهاون في أداء حقوق رب العباد.
وإذا ألقينا نظرة سريعة إلى حال الأمة اليوم نلاحظ مدى تفريط المسلمين في أداء الحقوق والواجبات والحفاظ على الأمانات.
لقد تخلى كل مسؤول عن أمانة مسؤوليته إلا من رحم الله.
هذه حالنا اليوم. وذلك هو رأس مشاكلنا.. وعلاجه ليس بالعسير إن فاء كل منا إلى ربه واستيقظ فيه ضميره، وذكر الجنة وما أعده الله للأوفياء الأمناء من ثواب عظيم، وذكر النار وما أعده الله للخائنين من عذاب أليم، إن ذلك ليسير على من أحيى قلبه بتعاليم دينه السمحة وعمل بمقتضى القرآن العظيم، واهتدى بسنة الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.