بعث الله النبيئين والمرسلين لهداية البشرية إلى طريق عبادته، ولتحقيق سعادتها وصلاحها باتباع أحكام الشرائع الإلهية، وهؤلاء قد أخلصوا في توجيه البشرية إلى الهداية الربانية. وبلغوا ما أنزله الله إليهم من الأحكام والشرائع، ونبيّ الرحمة محمد كان دائم التفكير في موضوع سعادة البشرية ونجاتها من العذاب الإلهي، والقرآن الكريم قد حكى عنه هذا التفكير، وذكر حِرصه البالغ على هداية الانسان يقول تعالى : {لعلك باخِع نفسك ألاّ يكونوا مومنين}(الشعراء : 3) ويقول الله تعالى : {وما أكثر الناس ولو حرصت بمومنين}(يوسف : 103).
ويصور هذا الحِرصَ حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة ] قال : قال رسول الله : >مثلي كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعْن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبْنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزِكُم عن النار، وأنتم تقحمون فيها< واللفظ للبخاري.
فالتفكير في سعادة البشرية من سنن الأنبياء والمرسلين، ومن فَكَّر تفكيرهم وسلَك سبيلهم وبذل الجهد لتحقيق هذه السعادة فإنه يستحق الأجر والثناء.
< حاجة المجتمع المعاصر :
إن التفكير في حالة المجتمع المعاصر يؤكد على احتياجه وتعطُّشه، فما الذي يحتاج إليه ويتعطش له؟ الاجابة على هذا السؤال تختلف حسب اختلاف العقائد، كالذي يُنكر الأديان ويزعم الاستغناء عن الهداية الربانية، يقول : >إن المجتمع تكفيه القوانين الوضعية، وتسعده الضوابط البشرية، وأنه ليس في حاجة إلى دين إلهي وشريعة سماوية، وتوجيه نبوي، ولكنّ الذي يؤمن بالأديان، ويعرف حِكمة إرسال الرسل وإنزال الشرائع يُجيب بأن المجتمع المعاصر في حاجة إلى دين إلهي وشريعة سماوية وتوجيه نبوي، وأنه لا يمكنه الاستغناء عن مثل هذا التوجيه، وأنه لا ينجومن آلامه ومصائبه إلا باتباع هذا التوجيه، وبعَوْدتِه إلى حِمى الدين..
< شمول السيرة النبوية :
في السيرة النبوية العطرة هداية ونور للانسان في أطوار حياته، وللمجتمع بمختلف طبقاته فهذه السيرة ترشدنا في الحياة العائلية وفي التعليم والإصلاح، وفي التربية والقيادة، وفي بناء المجتمع والدولة وفي الحرب والسلم… وهكذا هي سيرة شاملة يهتدي بها كل من خلُصت نيته وطابت سريرته..
كان الرسول زوجا مثاليا كما كان أباً رحيما، وهذه المثالية تتجلى في وصف خديجة رضي الله عنها للنبي حينما رجع إليها بعد نزول أول وحي في غار حراء، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها حديثا طويلا جاء فيه : >قال لخديجة وأخبرها الخبر : لقد خشِيت على نفسي، فقالت خديجة : كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق<. صفات الخير والرحمة والاحسان تُذَكِّرُ الزوجة بتوفرها في زوجها، فهذه شهادة عظيمة لعظيم، وفي ضوء هذه الصفات ينبغي أن ندرس سيرة الرسول حتى نتمكن من الاستفادة منها ومن الاستنارة بأنوارها.
< حماية المظلومين :
اشترك الرسول في حِلف الفُضول الذي عقدته قبائل قريش فيما بينها نُصرةً للضعفاء والمظلومين، وحماية للبائسين والمضطهدين في دار عبد الله بن جدعان. كان هذا الحِلف موضع عناية هذه القبائل، وكانوا ملتزمين بما تضمّنه إلى مدة من الزمن.
وقد اهتم الرسول بهذا الحلف حتى قال : >ما أحب أن لي بحلف حَضَرتُه في دار ابن جُدعان حمر النعم، ولو دُعيت له لأجبت<.
وأن المجتمع المعاصر يعاني أنواعا من الظلم والاضطهاد والمظلومون لا يجدون فيه من يقف بجانبهم، ويحمي حقوقهم، ويدفع عنهم الضيم والأذى.
هذا هو الدرس الذي تعلمه الرسول وهذا هو ما يحتاج إليه مجتمعنا المعاصر
< دعوة الحق ليس لها بديل :
التجأ أعداء الاسلام في بدايةالدعوة إلى وسيلة الإغراء والاستمالة وإرضاء المطامع حتى يُوقعوا الدعوة، ويمنعوا الرسول من أداء رسالته، فقد استعد عُتبة بن ربيعة وكان من سادات العرب لأن يعرض على الرسول أمورا لعله يقبل بعضها فيعطونه أيها شاء، ويكف عنهم : كلم عتبة محمداً فقال : يا ابن أخي، إنك منا حيثُ قد علِمت من المكان في النّسب، وقد أتيتَ قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، فاسْمع مني أعرضْ عليك أموراً لعلك تقبل بعضها، إن كنت إنما تريد بهذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد تشريفا سودناك علينا، فلا نقطع أمرا دونك،و إن كنت تريد مُلكا ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ.
ولم يكن من الرسول ردٌّ على هذا العرض إلا أنه تلا عليه سورة السجدة، وعتبة مُنصِت، يستمع إلى أحْسن القول، وهنا تبين له أن الدعوة التي أتى بها محمد هيفوق كل حِوص وطمع، وأن صاحب هذه الدعوة صاحب عزيمة ورسالة تهدف إلى تزكية النفوس وإنقاذ الانسانية، وأنه مأمور في هذه الدعوة وليس مختارا.
وصدق الله العظيم إذ يقول : {إنا أرسلناك كافة للناس بشيرا ونذيرا}.
< رد الأمانات :
أمر الرسول بالهجرة إلى المدينة وعنده ودائع للناس، لأنهم جربوا منه الصدق والأمانة فرأوه خير محافظ لودائعهم، والموقف عند الهجرة كان متأزما جدا، فإن قريشاً كانوا قد تآمروا على قتل الرسول في الليلة التي أراد الخروج فيها مهاجرا إلى المدينة، وقد تجمعوا حول داره يتربصون به حتى إذا خرج قتلوه. في هذه الساعة الحرجة لم ينس الرسول ودائع الناس التي عنده، عِلما أن أصحاب هذه الودائع هم مواطنون، قد ضيقوا عليه الحياة..
في هذه الليلة أَسَرَّ الرسول إلى ابن عمه علي بن أبي طالب أن يتسجّى برده الحضرمي الأخضر وأن ينام في فراشه، وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس. هذا الموقف الانساني العظيم، وهذا السمو في المعاملة والأخلاق، وهذا الكمال في الأمانة والتعفف كله يحتاج إليه هذا المجتمع اليوم، ويحتاج إليه إنسان هذا القرن الذي تصارعه المطامع والأهواء وتطارده المخاوف والظنون حتى يقلع عن أقبح الأعمال وأبشع الجرائم.
< عقد أول معاهدة في المدينة :
الحرية والسلام والانتصار للحق على الباطل من المقاصد الأساسية التي دعا إليها الإسلام ورغَّب أتباعه فيها.
والرسول حينما استقر في المدينة أسرع لإرساء قواعد المجتمع على أساس الفضائل، وبهذا الصدد آخى بين المهاجرين والأنصار..
وبعد هذا التآخي اهتم الرسول بوضع النظام السياسي للمدينة وبتوفير الحرية والسلام لسكانها من المسلمين واليهود وغيرهم، فكتب كتابا يعد وثيقة سياسية تاريخية تقرر حرية العقيدة والرأي… في المجتمع الذي لم يعرف نظاما ولم يجرب مدنية.
ومما جاء في هذا الكتاب : >وإن يهود بني عوف أمة من المومنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.. إلا من ظلم أو ألم فإنه لا يوتِغُ إلا نفسه وأهل بيته< إلى آخر ما جاء في هذا الكتاب.
< خطبة حجة الوداع :
في العاشر من الهجرة أدى رسول الله فريضة الحج، وفي هذا الحج ألقى يوم عرفة خطبة بليغة قرر فيها حقوق الإنسان، وقدم نصائح غالية جديرة بأن تكتب بماء الذهب..
والحق أن حكماء العالم ومصلحيه لم يصلوا مع تقدمهم في العلم والفكر والحضارة الذروة التي وصلت إليها هذه الخطبة في إرادة الخير للبشرية. وفي تقرير حق العدالة والمساواة بين البشر ومما جاء في هذه الخطبة : >أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها. وإن كل ربا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون.. وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب وإن كل دم في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب<..
< لا يجزى بالسيئة السيئة :
قد يضطر الإنسان إلى الاستدانة، ويتكدر الجو بين الدائن والمدين في أغلب الأحيان لأن أحد الطرفين يُسيء المعاملة ولا يقدر الظروف، والرسول ضرب مثلا رائعاً للعلاقة الطيبة بين الطرفين، يحكي ذلك القصة التالية : >حدّث زيد بن سعتة، وهو من أحبار اليهود، أنه أقرض النبي قرضا كان قد احتاجَ إليه ليسد به خللا في شؤون نفر من المؤلفة قلوبهم، ثم رأى أن يذهب قبل ميعاد الوفاء المحدد ليطالب بدينه. قال : أتيته، (يعني رسول الله ) فأخذت بمجامع قميصه وردائه، ونظرت إليه بوجه غليظ، قلت له : يا محمد! ألا تقضيني حقي؟ فو الله ما علمتكم بني عبد المطلب إلا مُطلا، ولقد كان لي لمخالطتكم علم. قال : فنظر إلي عمر وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم رماني بنظره فقال : يا عدو الله أتقول لرسول الله ما أسمع وتصنع به ما أرى؟ فو الذي نفسي بيده لو لم تكف >أو كما قال< لضربت بسيفي رأسك، قال : ورسول الله ينظر إليّ في سكون وتُؤدة، فقال : يا عمر، أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التقاضي، اذهب به يا عمر فأعْطه وزده عشرين صاعاً من تمر مكان ما روعته. قال : فذهب بي عمر فأعطاني حقي وزادني عشرين صاعا من تمر.
هذه المعاملة الحسنة، كان لها تأثير قوي في نفس زيد فقد أسلم وحسن إسلامه.
ذ.عمر فارس