إن موضوع أمانة الخلافة موضوع جلل لأنه يلخص إجمالا حقيقة الوجود، وحكمة الخلق، التي لا ندري منها إلا القليل الذي تفضل، الخالق ـ جل وعلا ـ فأنبأنا به، من خلال رسله ورسالاته، فما معنى الخلافة؟
دلالة مفهوم الخلافة : الخلافة لغة هي ما يجئ من بعد ، كأن يقال: هو خلف صِدْقٍ من أبيه . وتأتي بمعنى النيابة عـن الغير كما فــي : {اخلفني في قومي}.
وأما الخلافة اصطلاحا فلها مفهوم في غاية السمو والرفعة وهو اصطفاء الله سبحانه وتعالى من ينوب عنه فيتحمل مسؤولية إعمار الأرض وتسخير مقدراتها وخيراتها، وإعطائه حق التصرف في الأشياء مع أقداره على ذلك. في إطار حدود رسمها له في العلم الذي علمه إياه.يقول الحسن البصري رحمه الله : >مَنْ أمَرَ بالمَعْروف ونَهَى عن المُنْكَر فهو خليفةُ الله في الأرضِ وخليفةُ كتابِهِ وخَليفَةُ رَسُولِهِ<.
استخلاف الإنسان في الأرض
يقول الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}.
لقد أراد الله تعالى أن يسلم لهذا الكائن الجديد في الوجود زمام هذه الأرض، ويطلق فيها يده، ويكل إليه إبراز مشيئته في الإبداع والتكوين، والتحليل والتركيب، والتحوير والتبديل؛ وكشف ما في هذه الأرض من قوى وطاقات، وكنوز وخامات، وتسخير هذا كله – بإذن الله – في المهمة الضخمة التي وكلها الله إليه.
ولهذا وهبه من الطاقات الكامنة، والاستعدادات المذخورة كفاء ما في هذه الأرض من قوى وطاقات، وكنوز وخامات؛ ووهبه من القوى الخفية ما يحقق المشيئة الإلهية. وهبه مؤهلات هذه الخلافة التي تتجلى في ما يلي :
1- طبيعة الإنسان الطينية : لقد خلق الإنسان من طين، ومن علق، ومن طين لازب، ومن صلصال كالفخار، ومن حمإ مسنون، وفي هذه الطبيعة الطينية مزايا أولية تتمثل في التماسك والتكافل والتنوع. فقد روى الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال: سمعت رسول الله يقول : >إن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن الخبيث والطيب<. كما أن خلقه من تراب وماء يجلي في طبيعة فطرته الطاهرة، التي قد يعلوها دَخَن، كما تتجلى فيه عناصر الضعف والقوة، فهو مزيج من أنواع شتى مختلفة تجسد معاني الاختلاف والتناقض تارة، ومعاني التماسك والانسجام تارة.
2- الطبيعة الروحية للإنسان : إلا أن طبيعة الطين لم تكن كافية لتبوئ المكانة العليا عند رب العزة، رغم أنه خلقها بيديه، سبحانه وتعالى. قال تبارك وتعالى: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} فنفخة الروح هي التي تسموا به إلى القدر الذي أوجده الله من أجله. وفي هذا إشارة ربانية لطيفة، هي أن هذا المخلوق وجد من مادتين، الطين والروح، وخلافته في الأرض تقتضي، الارتفاع بالطين إلى مقام الروح، وهذا محور المهمة الربانية التي كلف بها الإنسان.
3- المساعدات علىالقيام بأعباء الخلافة : لقد علم الملائكة ببعض الجوانب السلبية للإنسان: التي هي الإفساد في الأرض وسفك الدماء، وهم يسبحون ويقدسون ولكن الله سبحانه، وهو العليم الحكيم، نبههم إلى أن هذا الخليفة سيكون مزودا بما يساعده على الارتقاء نحو السماء ولذلك علم الأسماء. ومما يبين أن هذا العلم يصلح للقيام بالخلافة، أن الملائكة لم يعلموا الأسماء، لأنهم ليسوا في حاجة إليها.
تـحـمـل الأمــانــة
قال تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا . ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما}.
روى الترمذي عن ابن عباس قال: قال رسول الله : >قال الله تعالى لآدم : يا آدم إني عرضت الأمانة على السماوات والأرض فلم تطقها فهل أنت حاملها بما فيها فقال وما فيها يارب؟ قال إن حملتها أجرت وإن ضيعتها عذبت، فاحتملها بما فيها فلم يلبث في الجنة إلا قدر ما بين صلاة الأولى إلى العصر حتى أخرجه الشيطان منها<.
ثم بعد ذلك جاء وقت تحمل الأمانة وتوضيحها، وتوضيح جللها وثقلها على السماوات والأرض، يقول سيد قطب: إن السماوات والأرض والجبال، هذه الخلائق الضخمة الهائلة، التي يعيش الإنسان فيها أو حيالها فيبدو شيئا صغيرا ضئيلا. هذه الخلائق تعرف بارئها بلا محاولة، وتهتدي إلى ناموسه الذي يحكمها بخلقتها وتكوينها ونظامها؛ وتطيع ناموس الخالق طاعة مباشرة بلا تدبر ولا واسطة. وتجري وفق هذا الناموس دائبة لا تني ولا تتخلف دورتها جزءا من ثانية؛ وتؤدي وظيفتها بحكم خلقتها وطبيعتها غير شاعرة ولا مختارة.
هذه الشمس تدور في فلكها دورتها المنتظمة التي لا تختل أبدا. وترسل بأشعتها فتؤدي وظيفتها التي قدرها الله لها؛ وتجذب توابعها بلا إرادة منها؛ فتؤدي دورها الكوني أداء كاملا..
وهذه الأرض تدور دورتها، وتخرج زرعها، وتقوت أبناءها، وتواري موتاها، وتتفجر ينابيعها. وفق سنة الله بلا إرادة منها.
وهذا القمر. وهذه النجوم والكواكب، وهذه الرياح والسحب. وهذا الهواء وهذا الماء.. وهذه الجبال. وهذه الوهاد.. كلها.. كلها.. تمضي لشأنها، بإذن ربها، وتعرف بارئها، وتخضع لمشيئته بلا جهد منها ولا كد ولا محاولة.. لقد أشفقت من أمانة التبعة. أمانة الإرادة. أمانة المعرفة الذاتية. أمانة المحاولة الخاصة.
> وحملها الإنسان..
الإنسان الذي يعرف الله بإدراكه وشعوره. ويهتدي إلى ناموسه بتدبره وبصره. ويعمل وفق هذا الناموس بمحاولته وجهده. ويطيع الله بإرادته وحمله لنفسه، ومقاومة انحرافاته ونزغاته، ومجاهدة ميوله وشهواته.. وهو في كل خطوة من هذه الخطوات مريد. مدرك. يختار طريقه وهو عارف إلى أين يؤدي به هذا الطريق!
إنها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم، القليل القوة، الضعيف الحول، المحدود العمر؛ الذي تناوشه الشهوات والنزعات والميول والأطماع..
وإنها لمخاطرة أن يأخذ على عاتقه هذه التبعة الثقيلة. ومن ثم كان ظلوما لنفسه جهولا بطاقته. هذا بالقياس إلى ضخامة ما زج بنفسه لحمله. فأما حين ينهض بالتبعة. حين يصل إلى المعرفة الواصلة إلى بارئه، والاهتداء المباشر لناموسه، والطاعة الكاملة لإرادة ربه. المعرفة والاهتداء والطاعة التي تصل في طبيعتها وفي آثارها إلى مثل ما وصلت إليه من سهولة ويسر وكمال في السماوات والأرض والجبال.. الخلائق التي تعرف مباشرة، وتهتدي مباشرة، وتطيع مباشرة، ولا تحول بينها وبين بارئها وناموسه وإرادته الحوائل. ولا تقعد بها المثبطات عن الانقياد والطاعة والأداء.. حين يصل الإنسان إلى هذه الدرجة وهو واع مدرك مريد. فإنه يصل حقا إلى مقام كريم، ومكان بين خلق الله فريد.
إنها الإرادة والإدراك والمحاولة وحمل التبعة.. هي ميزة هذا الإنسان على كثير ممن خلق الله. وهي هي مناط التكريم الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى، وهو يسجد الملائكة لآدم. وأعلنه في قرآنه الباقي وهو يقول: ولقد كرمنا بني آدم.. فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله. ولينهض بالأمانة التي اختارها؛ والتي عرضت على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها…!
تسخير الكون للإنسان ليقوم بالأمانة
قال تعالى: {الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ، ولتبتغوا من فضله، ولعلكم تشكرون. وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}..
إن الإنسان.. يحظى من رعاية الله – سبحانه – بالقسط الوافر، الذي يتيح له أن يسخر الخلائق الكونية الهائلة، وينتفع بها على شتى الوجوه. وذلك بالاهتداء إلى طرف من سر الناموس الإلهي الذي يحكمها، والذي تسير وفقه ولا تعصاه ! فجعله الله مركز الكون كله، ليسير به أو بما وهبه الله مفاتحه نحو الوجهة التي أمره الله بها، أما ما لم يملك مفاتحه فسخره الله له بحيث لا يعترض سيره ما دام يسير في الإتجاه الصحيح.
سخر الله للإنسان البحر والفلك، ليبتغي من فضل الله؛ وليتجه إليه بالشكر على التفضل والإنعام، وعلى التسخير والاهتداء: ولعلكم تشكرون.. وهو يوجه قلبه بهذا القرآن إلى الوفاء بهذا الحق، وإلى الارتباط بذلك الأفق، وإلى إدراك ما بينه وبين الكون من وحدة في المصدر ووحدة في الاتجاه..إلى الله..
ومن تخصيص البحر بالذكر إلى التعميم والشمول. فلقد سخر الله لهذا الإنسان ما في السماوات وما في الأرض، من قوى وطاقات ونعم وخيرات. يقول سبحانه: {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض؛ وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة؟ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. وإذا قيل لهم:اتبعوا ما أنزل الله قالوا:بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا. أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير}.
وإضافة إلى تسخير الكون فقد سخر الله تعالى للإنسان ما هو من الإنسان نفسه؛ “قل هو الذي جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، قليلا ما تشكرون”، فخلق له الوسائل التي يمكنه بها التعامل مع هذا الكون المسخر له، ويتفاعل معه.
وفوق هذا فتح الله للإنسان أبواب الخير ليصحح مساره كلما أخل، فأرسل الرسل والأنبياء تترى ثم كان العلماء في هذه الأمة ورثة الأنبياء، ليترك باب التوجيه مفتوحا وحبل الوصل موصولا، وترك باب التوبة مفتوحا، وضاعف الحسنات، وجمد السيئات، وسمى نفسه الغفور والرحيم والعفو والتواب والرحيم. سبحانه وتعالى له الفضل كله وله الحمد كله ولا إله إلا هو وحده لا شريك له.
مضمون الأمانة
يقول تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}.
إن أمانة الاستخلاف هذه تتجلى في أن يعرف الإنسان ربه سبحانه ويعرف الآخرين به، على النحو الذي قضاه تبارك وتعالى، وبينه في كتابه : {ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأرسلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}، {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيئين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس في ما اختلفوا فيه}؛ ولهذا كان من مقتضيات الأمانة معرفة الرسول والكتاب والتعريف بهما. ثم إن الأمر كان يستلزم التنفيذ وكان من مقتضيات الأمانة تحويل أوامر الله وأوامر رسوله إلى حياة معيشة وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قرءانا يمشي. إن الإنسان بقدر أدائه لأمانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون منجزاً وظيفته الملقاة عليه.
إذن فالأمانة تتجلى في:
< العلم : بالله وبما أمر به تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله، ولهذا وجب مدارسة الوحي وفقهه والتمسك به.
< الصلاح الذاتي: بامتثال أوامر الله تعالى في خاصة نفسه، فعلا وتركا، وجوبا وحرمة.
< التبليغ : وهو دعوة الناس إلى هدى الله وتعليمهم ما يسمو بطينهم نحو القدر الذي خلقهم الله من أجله.
وهذا كله إن أُحْسِنَ يؤدي إلى إعمار الأرض بشكل يجعلها تتناغم مع الكون في تسبيحه لله، وتتلاحم الأرض مع السماء كل له عابدون مسبحون مقدسون.
عــواقــب حمل الأمـــانــة
إن الإحسان في حمل الأمانة يستوجب الثواب، والإساءة فيها تستوجب العقاب. والعواقب دنيوية وأخروية، فأما الأخروية، فتتجلى في ختام آية الأمانة: {ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات}، أما الدنيوية فكانت في الأمم السابقة كثيرة وأقواها أن الله يستأصل خونة الأمانة، ثم يستخلف من هم أهل للخلافة، أما أمة محمد ، فقد رفع عنها هذا الاستئصال، وبقي غيره كتسليط بعض الأعداء وانشقاق ذات البين… قال تعالى في سورة الأنعام: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم} قال رسول الله (: “أعوذ بوجهك.. وقال سبحانه: “أو من تحت أرجلكم” قال : >أعوذ بوجهك..<، قال سبحانه : {أو يلبسكم شيعا فيذيق بعضكم بأس بعض} قال : >هذا أهون هذا أيسر<.