التعريف اللغوي :
“مدَن بالمكان يمدُن مُدُونًا أقام.. وتمدَّن الرجل تخلَّق بأخلاق أهل المدن وانتقل من حالة الخشونة والبربريَّة والجهل إلى حالة الظرف والأنس والمعرفة.. والنسبة إلى مدينة الرسول مَدَنيٌ وإلى غيرها مَدِينِيٌّ. وقيل إذا نسبت الإنسان إلى المدينة قلت مَدَنيٌّ وإذا نسبت إليها الطائِر وغيرهُ من الحيوان قلت مَدِينِيٌّ”(لسان العرب، ابن منظور).
التطور التاريخي للمفهوم :
كانت البدايات الأولى لمصطلح “المجتمع المدني” في أوروبا في عصر النهضة والإصلاح الديني حيث بزغت الدعوة إلى الفصل بين السلطة الزمانية والسلطة الدينية المتمثلة في الإكليروس الذي كان يسيطر على كل مناحي الحياة. وازداد هذا المفهوم قوة واتساعا بعد الثورات التي عرفها العالم الغربي خصوصا الثورة الفرنسية. فكان المجتمع المدني هو المقابل للمجتمع الديني.
وفي القرن العشرين تبلور هذا المفهوم ليتخذ طابعا سياسيا يتمثل في المعارضة للأنظمة الاستبدادية أو الرأسمالية المتغطرسة أو الاشتراكية غير الديموقراطية. فكان المجتمع المدني هو المقابل للمجتمع السياسي أي السلطة السياسية الشمولية والاستبدادية المهيمنة على كل المجتمع.
واليوم، أصبح للمصطلح مفهوم واحد تقريبا، وهذه بعض التعاريف التي تعطى للمصطلح:
< “مجموعة التنظيمات التطوعية المستقلة عن الدولة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة.. لتقديم مساعدات أو خدمات اجتماعية للمواطنين أو لممارسة أنشطة إنسانية متنوعة”(عبد الغفار شكر).
< “مجموعة من الروابط بين الأفراد والهيئات العائلية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية، التي تظهر في مجتمع معين، خارج إطار وتدخل الدولة” (LصEncyclopédie de lصAgora : J-L Quermonne).
< “يشير المجتمع المدني إلى حياة اجتماعية منظمة وفق منطقها الخاص،أساسا المنطق الجمعوي، وهو الوسيلة المثلى لضمان الدينامية الاقتصادية والثقافية والسياسية” (Glossaire des concepts : Dominique Wolton).
إذن، وبشكل تقريبي فإن مفهوم المجتمع المدني هو: كل الهيئات والفعاليات من غير القطاع العام والقطاع الخاص، المعتمدة على العمل الطوعي لكل من الأفراد والجماعات المنتمين إليها والمتعاونين معها والمستفيدين من خدماتها، التي تسعى لخدمة الصالح العام في مختلف مجالات الحياة الممكنة، وأساسا في المجال الاجتماعي والثقافي والبيئي.
تطور المجتمع المدني في الوطن العربي:
“في الوطن العربي كانت المقاربة الأولى لمفهوم المجتمع المدني ماركسية.. لهذا ارتبط المفهوم بالدعوة إلى الديمقراطية، بل إنه تمحور حولها.. وبالتالي أصبح المقابل لاستبداد السلطة، ليرتسم الصراع كصراع بين المجتمع السياسي (السلطة) والمجتمع المدني (أي المجتمع).. لكن هذا الفهم كان يؤسس لإشكالية عميقة، لأنه كان يخفي المجتمع، وهو يبرز فئة تعمل باسم المجتمع المدني، من أجل ما هو سياسي.. ليختزل الصراع في صراع من أجل الديمقراطية، وإعادة ترتيب العلاقة بين السلطة والمجتمع.. ويقفز عن كلية المطالب المجتمعية، والمطالب الاقتصادية المعيشية، والمطالب التي تتعلق بالحق في السعي للنشاط من أجل الحصول عليها..” (تطور مفهوم المجتمع المدني وأزمة المجتمع العربي: غازي الصوراني).
أما في الوقت الراهن، فالمجتمع المدني العربي أصبح همه الكبير هو التنمية والتخفيف من الضائقة المعيشية التي يعانيها نسبة كبيرة من المواطنين، نتيجة السياسات الحكومية الفاشلة والفاسدة في العقود الخمسة الأخيرة، أو نتيجة الحروب والاحتلال الأجنبي كما هو الشأن في فلسطين والعراق. ولكن مجهوداته لا زالت ضعيفة لعدة أسباب، أهمها:
< ثقافة المجتمع المدني بالمفهوم الحديث مازالت جديدة على المجتمعات العربية،لذلك فإن عدد مؤسسات المجتمع المدني لم يبلغ المستوى الكافي لتحقيق أهدافه
< هيئات المجتمع المدني العربي ما تزال يغلب عليها طابع الارتجال لأن غالبيتها يعمل في ظروف وبوسائل تقليدية غير مؤسساتية
< أغلب الأنظمة العربية ما تزال أنظمة سلطوية تغيب فيها حرية تنظيم الأحزاب والنقابات والجمعيات، أو هي أنظمة الحزب الوحيد. والدول العربية القليلة التي فيها هامش لا بأس به من الحريات العامة ما تزال قوانينها ومساطرها ومؤسساتها لم تتغير ولم تساير تطورها الديمقراطي
وتاريخيا المجتمع المدني كان هو الأساس في المجتمعات الإسلامية:
ولكن، في حقيقة الأمر، إذا كان المجتمع المدني كمصطلح حديث العهد بالبلاد العربية والإسلامية، إلا أن مضامينه ليست جديدة عن المجتمعات العربية والإسلامية، بل كانت هي الأصل والأساس في تدبير الشأن العام، سواء في الحواضر أو البوادي. فالأهالي هم الذين كانوا يقومون ببناء أغلب التجهيزات والمرافق العمومية، ويوفرون لها التمويل الدائم بواسطة الأوقاف من أجل تدبيرها وصيانتها. ولولا ضيق المساحة لأفرطنا في استعراض الأمثلة على ذلك. ويكفي أن نستحضر بأن المسلمين أول من أبدع أسلوب التمويل الذاتي للمؤسسات المتمثل في نظام الوقف.
موضوع الحلقة القادمة: “مفهوم التنمية”
———
وكاتب السلسلة يضع رهن إشارة القراء عنوانه الإلكتروني لإرسال ملاحظاتهم ومقترحاتهم وأسئلتهم.
ذ.أحمد الطلحي