صناعة الانبعاث، صناعة نسائية
نتحدث في هذا العدد عن راهن الأساطير المؤسسة لأكذوبة الحقوق النسائية ونحن نعيش اليوم العالمي للمرأة، يوم مشهود، قصفتنا فيه وسائل الإعلام الغربية، بصور منتقاة بميكيافيلية مدروسة عن نساء طالبان ونساء إيران وبنكلاديش وباكستان ولباسهن المسبل حتى التراب!! الخ الخ وستتوقف نفس الكاميرات عند صور أخرى منتقاة لنساء، بدول إسلامية أخرى وصلت فيها المرأة إلى سدة الحكم في سياسة الدولة، (وسياسة زوجها، وهذا هو الأهم)!!..وتتحاشى الكاميرات الموجهة، صور نساء السجون العراقية بما فيهن العالمات في مجال الذرة والعلوم الدقيقة، ناهيك عن اللواتي تمت تصفيتهن، ولن تتوقف الكاميرات طويلا عند يوميات النساء الغربيات المتحضرات، المغتصبات والمعنفات والمهمشات، وبغايا النوادي الليلية الدولية وبغايا الأنترنيت العابرات للقارات، ولم يتم الحديث إلا باختزال مشوه عن ضحايا التسيب الجنسي من أطفال شوارع، وأمهات عازبات، ونساء مكالات إلى الموت المهين بسبب الإيدز. ولم يحاكم أحد نخاسي اللحم الأبيض الرخيص من مفبركي ميكروبات أنفلونزا الدجاج النسائي.
ولم تصحح أبدا صورة المرأة ولا وضعيتها، مادامت القيم الإنسانية والإنسان نفسه مجرد بيدق في لعبة الكبار للشطرنج، حيث يرمي به أسياد اللعبة ذات اليمين وذات الشمال لتحقيق منافع أرضية، لا علاقة لها لا بحقوق الإنسان ولا حقوق المرأة ولا حقوق الأقليات ولا الأكثريات ولا هم يحزنون.
سلطان الهوى والحقيقة الضائعة
لن أتوقف في هذا الجزء عند مظاهر عجز المنظومة الغربية عن تحقيق التوازن للمرأة هناك، فكيف إذا تعلق الأمر بنساء العالم بما فيهن المرأة المسلمة، لأن البنيان المغشوش عكس المرصوص قد يعمر طويلا إذا بيضنا جدرانه بالألوان الزاهية والأكثر قيمة في سوق الطلاء، وزيناه بالإضاءات الأكثر إبهارا،وعلقنا على جدرانه اللوحات النفيسة، لكنه يبقى بنيانا مغشوشا، كلما داهمه الزمن تبينت شقوقه وتصدعاته حتى يسقط لا محالة بما فيه على من فيه!!..و هكذا هوالبنيان الغربي في المجال النسائي، تخمة في الحقوق، وندرة في الكرامة والإحساس بالأمان واستشراء للعقوق!.
ولقد غدا واضحا أن المعاناة الإنسانية كيفما كان حجمها وجنس أصحابها هي أكبر من أن تحشر في شق قانوني، وفي إطار بنود وفقرات وتعديلات كيفما كانت ثوريتها وطلائعيتها، فعلاقات الهيمنة أو ما يسمى بعلاقات السلطة تملك – بأي وسيلة استعانت – أن تلوي عنق النصوص وتتجاوز مشرعي النصوص، (إن لم يكن حماتها هم حرامييها)، الشيء الذي يقع الآن في الغرب بخصوص التعاطي مع القانون الدولي وقضايا العالم المتخلف..
والنتيجة، إن سلطان القانون يبقى محدودا أمام السلطان الثقافي، سلطان صياغة الأفكار والمعتقدات الأرضية، هذا السلطان الذي، في حالةانقطاعه عن السماء وعن الفرامل الربانية، وإخلاده إلى الأرض، كما قال سبحانه، يعتبر كل شيء، قابلا لمقايضة سلطان الهوى، بما في ذلك القيم، والشاطر يكسب!..
وبصيغة أخرى، فإن ما يسمى بالحقل الثقافي والذي ينتج مجموعة من الممارسات، تستمد في الغالب مشروعيتها من قيم نفعية كما في الغرب، أو من المخزون الديني فيما يخص العالم الإسلامي، من خلال تعامل قاصر وانتقائي مع النص الديني، هو البؤرة التي تنتعش فيها الفيروسات المهينة للكرامة النسائية والإنسانية بصفة عامة، وإذا أضفنا إلى هذا الحقل المفتوح في بلاد المسلمين، كل أنواع الغزو الثقافي الآتية من الغرب، والتي تستند إلى قيم فردانية ومادية صرفة تلغي في تصورها، العامل الرباني، كما قلنا سابقا، فإن هذا الخليط الهجين لا يمكن أن يصنع إلا شخوصا منخورين تتنازعهم قيم استبدادية تنتصر للذات وحقوقها، حتى وإن كانت على جثة الآخر سواء كانأبا أو أما أو زوجة أو أولادا..
وبالعودة إلى المنظومة الغربية، فإن ما يقع حاليا من انتهاكات جسيمة لحقوق النساء في العراق وفلسطين وأفغانستان من طرف قوى الاحتلال مع وجود مؤتمرات نسائية زاجرة في هذا المجال، وقوانين دولية تجرم استهداف المدنيين وتجرم التعرض للنساء في النزاعات المسلحة، لمما يسقط كل دعاوى الغرب التحريرية للمرأة..
وتظل بنود المؤتمرات الدولية صورية وعبارة عن عملية التبرئة المفضوحة، يبرر بها صانعو هذه البنود الفارغة المحتوى، الصخب الذي يقيمونه حول بنود أخرى أكثر مكسبا لخفافيش الظلام، كالبنود المتعلقة بزواج الشواذ والعلاقات الجنسية المبكرة المأمونة، والولادة خارج الزواج والإجهاض، ونزع الحجاب والمساواة في الإرث إلخ إلخ..
ويبدو أن الأمر مثير للغضب حين تصبح لهذه البنود كل السلطة داخل الدول الرافضة لها من منطلق خصوصياتها، حيث تعمل المنظومة الغربية ” الديمقراطية” من خلال جماعاتها المحلية الضاغطة، داخل الدول المستهدفة على إثارة القلاقل والاحتجاجات المكثفة لتفعيل تلك الاتفاقيات، في حين تعمل المنظومة نفسها على التلويح بقطع المساعدات الاقتصادية وإشهار العصا السياسية وأشياء أخرى بالنسبة لكل غاية مفيدة!
وإننا لا نريد في تعب مكرور العودة إلى تفاصيل المرجعية الكونية في مؤتمراتها النسائية الشهيرة، فمؤشرات إفلاس البنيان المغشوش أوضح من شمس الظهيرة.
ومن شأن التداعيات الأخيرة للرسوم (المسيئة عبثا) أن تجعلنا نستخلص أن الطفرة التاريخية كما يسميها المحللون الماركسيون ونسميها نحن بالسنن الربانية، أصبحت جاهزة لإنجاز التحول الكبير، وأن بهارات الانبعاث (المرقدة) في خلايا الجسم العربي المسلم قد تم امتصاصها بما يكفي لفهم العناوين الكبيرة من مثل حقوق المرأة أو ما يسمى بالحرب على الإرهاب، أومسرحية الزحف الأخضرالشريرالقادم إلخ..
كما فهم المسلمون، و بكل وضوح، المقاصد المهيمنة الكامنة وراء استهداف البلدان العربية والإسلامية دون غيرها.
وإذا كانت بعض ردود الفعل الجماهيري للدول العربية ا لمسلمة قد اتسمت بالانفعالية والعدوانية والبلطجة أحيانا، فإن ردودا أخرى راشدة في اتجاه المقاطعة الاقتصادية والوقفات الحضارية والدردشات الدعوية المباشرة مع المواطنين الغربيين أو عبر الإنترنيت، وتوزيع كتب السيرة والقرآن الكريم، بنفس وحدوي عبر أصقاع العالم، بينت بما يكفي أن المسلمين إذا أرادوا يوما الحياة فلا بد أن يستجيب سبحانه وتعالى، وعلى عاتق المرأة المسلمة تقع تبعات الانبعاث وإحياء القلوب، واغتنام هذا التململ لصياغة الغد الكوني الرحيم الذي بشربه رسول الرحمة للعالمين، رفقة أخيها الرجل من منطلق الولاية الربانية المشتركة، ولاية الشقائق لبعضهم البعض والتي تقتضي أن ينظف الغسيل بيدين، لا بـيـد واحدة..
صناعة الانبعاث صناعة نسائية
حين تلقى رسول الله وهو في غار حراء الوحي وسارع إلى الرسالية الأولى أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وقال لها: لا راحة بعد اليوم يا خديجة، لم يكن عليه السلام يقصد أن حربه على الاستكبار الجاهلي ستكون قانونية لتتخلص المرأة آنذاك من ويلات الوأد والمتاجرة بها في البغاء أو حبسها عند وفاة زوجها إرثا لذكور الهالك، ولو جاء رسول الله عليه السلام بالخلاص القانوني للمرأة فحسب لظلت رسالة الإسلام محدودة المفعول، والتحرير جزئيا.
ولو جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحرير الاقتصادي، وانتزاع ثروات اللصوص المرابين وتوزيعها على الفقراء المغلوبين لأدى ذلك إلى خلق أثرياء جدد وفقراء جدد حيث تتغير المواقع ولكنها لا تعني آليا تغيرا للعقليات الهـلوعة والمنوعة كما وصفها سبحانه..
لقد قال عليه الصلاة والسلام : لا راحة بعد اليوم، لأنه – وهو الذي لا ينطق عن الهوى- كان يعلم علم اليقين أن البنيان المرصوص -أي بناء الأمة- لا يحتاج إلى بناء السقف في البدء ولا جدران اليمين أو الشمال، بل يحتاج إلى وضع لبنات الأساس والقواعد من البيت ليقف عليها البناء الإسلامي بشموخ ورسوخ، فلا يتشقق ولا يتصدع، ونقصد بالأساس، كلمة التوحيد والكلمة الطيبة: (لا إله إلا الله محمد رسول الله). وقد جاء في الحديث النبوي الشريف : >من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة، قيل: وما إخلاصها يا رسول الله؟ قال: أن تحجزك عن محارمه<، وقد تشبع أصحاب رسول الله بكلمة التوحيد في أدق جزئـياتها، عبادات ومعاملات، فكانوا خير أمة أخرجت للناس، و النتيجة فقد انتفت في عهدهم معالم العنف والحكرة والمظالم خاصة تجاه النساء، اللواتي اكتسبن كرامة و عزة قل نظيرها إلى الآن!.
وجوه نسائية شامخة
ولأن الملف، نسائي بالدرجة الأولى والعنوان يدور حول الصناعة النسائيةللبعث الحضاري، فدعوني إخوتي القراء أستلهم من هذا التاريخ المتوضئ بضع أمثلة لوجوه نسائية شامخة، لنستجلي معالم هذه الصناعة المتفردة، فهذه هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، آكلة كبد حمزة، عم رسول الله ، وقد كانت لسان حال المشركين بأشعارها التي كانت تلقيها أثناء معركة أحد، لشحذ عزائم المقاتلين، حيث مثلت في نفس المعــركة بالجسم لحمزة الطاهر، ثم هداها سبحانه وتعالى للإسلام، وجاءت في موكب النساء المبايعات لرسول الله ، ورغم جرمها الرهيب أجابت بكل ثقة وأنفة رسول الله حين قال : >ولا تقتلن أولادكن<، أقول أجابته هند : (ربيناهم صغارا، وقتلتهم كبارا) فضحك عمر الفاروق ] حتى استلقى على ظهره، ولم يقل لها رسول الله : >أنت يا أمة الله احفظي لسانك، ولا تتكلمي في حضرة الرجال، أ و مثلا: اقتلوها إنها مجرمة<، بل تبسم في وجهها عليه أزكى الصلاة والسلا م فحسب، كما لم يمتشق الفاروق الذي سمته إحدى العلمانيات العربيات بالعدو الأول للمرأة، سيفه ليصفيها قبل أن يرتد إليها طرفها!!..
وهذه خالة الصحابي الجليل أنس بن مالك أم حرام بنت ملحان تسأل رسول الله أن يدعو الله لتكون ضمن أناس قال فيهم عليه السلام : >عرض علي ناس من أمتي يركبون البحر ملوكا<، وصدق رسول الله، ففي ولاية عثمان بن عفان رضي الله عنه جهز جيشا لفتح قبرص وكانت أم حرام من بين المبحرات رفقة زوجها، وماتت في سبيل نشر الدعوة، ودفنت هناك في قبرص، فهل تحلم بركوب البحر والخروج إلى العالم لتشهد الفتوحات وتنشر الدعوة، امرأة قاصر مغلوبة، يتحكم في مصيرها زوج متطرف وقادة سياسيون ظلاميون؟!..
وهذه أم عمارة تحارب إلى جانب إخوانها الرجال، وتدب الكفار عن رسول الله ، ورفقة مصعب بن عمير، تضرب في كل الاتجاهات الكفار والمشركين هي وزوجها وابنان لها حيث جرحت في ذلك اليوم اثني عشرجرحا، ما بين ضربة سيف أو رمية سهم أو طعنة رمح، وقطعت يدها، ورسول الله مأخوذ ببسالتها يقول : (ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة)، ومع كل جروحها، تسأل رسول الله، فقط أن يجعلها وعائلتها من مرافقيه في الجنة!! فهل تشكو هذه المرأة المهيبة من ميز أو اضطهاد ما، وهل تحارب بهذا النفس البطولي امرأة ذليلة مقهورة؟؟..
أما إذا انتقلنا إلى الحديث عن العالمات والفقيهات فلن يسعنا ورق ولا أقلام، ولكم أن تتصوروا دماغا بشريا يحمل آلاف الأحاديث المأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ناهيك عن مئات الأبيات من الأشعار وأخبار العرب وأنسابهم ووصفات الطب والصيدلة!!، إنه دماغ أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق زوج الحبيب المصطفى..
وهل نتحدث عن العالمات والفقيهات المفوهات وراويات الحديث بكل الدقة والأمانة حتى قال عنهن إمام الجرح والتعديل في عصره : شمس الدين الذهبي في كتابه : (ميزانالاعتدال في نقد الرجال) : >وما علمت من النساء من اتهمت،-أي بالكذب- أو تركوها<.
لقد آمنت ثلة النساء المؤمنات من خريجات مدرسة رسول الله بالمساواة الحقيقية، التي قال في مدلولها الخبير اللطيف سبحانه وتعالى : {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ّذكر أو أنثى بعضكم من بعضكم فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب}.
وقد نزلت هذه الآية بمناسبة قول أم سلمة لرسول الله : يا رسول الله إني لأسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء، فتنزل الجواب في هذه الآية الكريمة.
وبإطلالة عابرة على بيوت هذه الثلة من النساء الرساليات وغيرهن كثير، تتضح معالم صناعة الانبعاث النسائي، في البيوت ، بيوت حلقات الذكر، وحلقات التعلم والتعليم وحلقات الجهد للدين والتضحية للدين، بعد التزود من المعين النبوي، الرباني الزخات غضا طريا.. إنها بيوت التفاضل في الصفات، صفات الأقوال والأعمال، ونساء من هذه الطينة، هن بمثابة الأوتاد والرواسي فيها، فكيف للشيطان أن يتغذى في أركانها، فيعرش ويتوالد ويشتد عوده، فيخلق بؤر الوسوسة والشقاق والتدابر والكيد.. لقد صنعوا – نساءا ورجالا- معالم البنيان المرصوص بالغالي والنفيس من أنفسهم وأموالهم وفلذات أكبادهم، فهاجروا وآووا ونصروا في سبيل إعلاء كلمة التوحيد، فصح فيهم وصف الله سبحانه وتعالى : {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما}( الفتح : 29)، وصدق الصادق المصدوق حين قال وهوالذي لا ينطق عن الهوى : >إني قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا : كتاب الله وسنتي<.
ذة.فوزية حجبي