الخطبة الأولى
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا، والحمد لله الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا، وأشهد أن لا إله إلا اله وحده لا شريك له، وسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
عباد الله : اتقوا الله تعالى واعْتَبِرُوا بما ترون وتسمعون، تمر الشهور بعد الشهور، والأعوامُ بعد الأعوام، ونحن في سبات غافلون، ومهما عشت يا ابن آدم فإلى الثمانين أو التسعين، فما أقصرها من مدة، وما أقلَّهُ من عمر. قيل لنوح عليه السلام، وقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما : كيف رأيتَ هذه الدنيا؟ فقال : كداخلِ من باب وخارج من آخر، فاتقوا الله أيها الناس، وتبصروا في هذه الأيام والليالي، إنها مراحل تَقْطَعُونَها إلى الدار الآخرة حتى تنتهوا إلى آخر سَفَرِكم، وكلُّ يوم يمر بكم فإنه يُبْعدكم عن الدنيا ويُقَرِّبُكُم من الآخرة، فطوبى لعبد اغتنم هذه الأيام بما يُقَرِّبُه إلى الله، طوبى لعبد شغلها بالطاعات واتعظ بما فيها من العظات، تنقضي بها الأعمار، يقلب الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.
أيها الإخوة المومنون، والأخوات المومنات، هذا العام الهجري قد مضى، وطُوِيَّ سجلُّه، ويُختَم عملُه، فهنيئا لمن أحسن فيه واستقام، وويل لمن أساء وارتكب الإجرام، فهَلُمّ نتساءل عن هذا العام، كيف قضيناه، ولْنُفَتِّشْ كتاب أعمالنا كيف أمليناه، فإن كان خيرا حمدنا الله وشكرناه، وإن كان شرا تُبْنا إلى الله واستغفرناه، كم يتمنى المرء تمام شهره، وهو يعلم أن ذلك ينْقُص من عُمره، وأنها مراحل يقطعها من سَفَره، وصَفَحاتٌ يطْويها من دفتره، وخُطواتٌ يمشيها إلى قَبْره، فهل يفرح بذلك إلامَنِ استعد للقدوم على ربه بامتثال أمره.
عباد الله : ألم ترواإلى هذه الشمس كلّ يوم تطلع وتغرب، ففي طلوعها ثم غروبها إيذان بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وإنما هي طلوعٌ ثم غروب. ألم تروا إلى هذه الأعْوام تتَجَدَّد عاما بعد عام، فأنتم تُوَدِّعُون عاما شهيدا عليكم، وتستقبلون عاما جديدا مقبلا إليكم، فبماذا تُوَدِّعُون العام الماضي وتستقبلون العام الجديد، فلْيَقِفِ كلٌّ منا مع نفسه محاسبا ماذا أسلفت في عامها الماضي، فإن كان خيرا ازداد وتقرب وإن يكن غير ذلك أقْلع وأناب، فإنما تُمْحى السيئة بالحسنة قال : >وأتبع السيئة الحسنة تمحها< ليُحاسِب كُلٌّ منا نفسه عن فرائض الإسلام وأدائها، عن حقوق المخلوقين والتخلّص منها، عن أمواله التي جمعها من أين جاءت وكيف يُنْفِقها، أيها الناس حاسبوا أنفسكم اليوم فأنتم أقدرُ على العلاج مِنكم غدا، فإنكم لا تدرون ما ياتي به الغد، حاسبوها في ختام عامِكم وفي جميع أيامكم، فإنها خزائنكم التي تحْفَظُلكم أعمالكم، وعما قريب تُفْتَحُ لكم فتَرَوْن ما أوْدَعتم فيها، رُوي أن رسول الله خطب فقال : >أيها الناس إن لكم معالم فانتبهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهايةً فانتبهوا إلى نهايتكم، إن المؤمن بين مخافتين : أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليأخذِ العبدُ من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشيبة قبل الهرم، ومن الحياة قبل الموت، وقال أبو بكر الصديق ] في خطبته : >إنكم تغدون وتروحون إلى أجل قد غِيبَ عنكم عملُه، فإن استطعتم أن لاَّ يمضيَ هذا الأجل إلاّ وأنتم في عَملٍ صالحٍ فافعلوا<، وقال عمر بن الخطاب ] في خطبته : >أيها الناس حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله< {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية}.
إخواني المومنون والمؤمنات، لِنتذكر بانقضاء العام انقضاءَ العمر، وسرعة مرور الأيام قربَ الموت، وبتغير الأحوال زوالُ الدنيا وحلول الآخرة، فكم وُلِد في هذا العام من مولود، وكم مات فيه من حي، وكم استغنى فيه من فقير، وافتقر من غني، وكم عز فيه من ذليل، وذل فيه من عزيز، قال تعالى : {قل اللهم ملك المُلك توتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتُعز من تشاء وتُذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميّت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب} أيها الإنسان راجع نفسك، على أي شيء تُطوى صحائفُ هذا العام، فلعله لم يبق من عمرك إلا ساعاتٌ أو أىام، فاستدرك عُمُراً قد أضعْتَ أوله، فإن عمر المؤمن إذا لم يقضه في طاعة مولاه لا قيمة له، قال النبي : >اغتَنِم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرَمك، وصِحّتك قبل سَقَمِك، وغناك قبل فقرك، وفراغَك فيل شُغلك، وحياتك قبل موتك< هكذا أوصانا رسول الله باغتنام هذه الخمس قبل حُلول أضدادها. ففي الشباب قوةُ وعزيمة فإذا هرِم الانسانُ وشابَ ضَعُفت قُوّتُه، وفتَرتْ عزيمتُه، وفي الصحة نشاط وانبساط، فإذا مرض الإنسان انحط نشاطُه وضاقت نفسه، وثقلت عليه الأعمال، وفي الغنى راحة وفراغ، فإذا افتقر الإنسان اشتغل بطلب العيش لنفسه، ولعياله، وفي الحياة ميدان فسيح لصالح الأعمال : فإذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثٍ : >صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالحٍ يدعو له< فاتقوا الله عباد الله واستدركوا ما فات من عمركم بالتوبة والإنابة، واستقبلوا ما بقي منه بالأعمال الصالحة، فإن إقامتكم في هذه الدنيا محدودة، وأيّامكم فيها معدودة، وأعمالكم فيها مشهودة، ومحصاة من قبل الحفظة إشعارا للعباد وتوكيدا لقول رب العزة والجلال : {وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون}.
اللهم إنا نسألك موجباتِ رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل برّ والفوز بالجنة، والنجاة من النّار آمين والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله ذي الفضل والإحسان، شرع لعباده هِجرةً القلوب، وهجرة الأبدان، وجعَل هاتين الهِجرتين باقيتين على مرِّ الزّمان وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته الحسان، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على سائر الأديان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين هاجروا وجاهدوا حتى فتحوا القلوب والبلدان، ونشروا العدل والإيمان، وسلم تسليما كثيرا.
عباد الله : اتقوا الله تعالى، وليكن لكم في سيرة نبيكم خيرُ أسوة وذلك بتَرِسُّم خطاه والسير على نهجِه والاقتداء به في أقواله وأفعاله وأخلاقه كما أمركم الله بذلك فقال : {لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}.
في هذه الأياميُكثر الناس من التحدث عن هجرة الرسول في الخُطب والمحاضرات ووسائل الإعلام، ولا يعدو حديثهم في الغالب أن يكون قصصاً تاريخيا يملؤون به الفراغ في أيام معدودات، ثم يُتْرك ويُنسى دون أن يكون له أثرٌ في النفوس، أو قدوةٌ في الأعمال والأخلاق، بل لا يعدو أن يكون ذلك عادة سنوية تُردَّدُ على الألسنة دون فقهٍ لمعنى الهجرة وعملٍ بمدلولها : إن الهجرة معناها لغة : مفارقة الإنسان غيرهُ ببَدَنه أو بلسانِه أو بِقلبه، ومعناها شرعا : مفارقَةُ بلادِ الكفر أو مفارقة الأشرار، أو مُفارقة الأعمال السيئة، والخصال المذمومة، وهي من ملة إبراهيم الخليل عليه السلام حيث قال : {إني ذاهب إلى ربِّي سيهدين}. أي مهاجرٌ من أرض الكفر إلى أرض الإيمان، وقد هاجر عليه الصلاة والسلام ببعض ذريته إلى الشام حيث البلاد المُقدّسة، والمسجد الأقصى، وبالبعض الآخر إلى بلاد الحجاز حيث البلدُ الحرام والبيت العتيق كما جاء في دعائه لربه {ربّنا إنّي أسكنت من ذرّيتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المُحرم}.
والهجرة من شريعة سيدنا محمد حيث أمر أصحابه بالهجرة إلى الحبشة لما اشتد عليهم الأذى من الكفار في مكة، فخرجوا إلى أرض الحبشة مرتين فرارا بدينهم، وبقي النبي في مكة يدعو إلى الله، ويلاقي من كفار قريش أشد الأذى وهو يقول : {وقل ربّ أدخلني مُدخل صدق وأخرجني مُخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا} إلى أن أذن له الله بالهجرة إلى المدينة المنورة، والهجرة أنواع: منها : هجرُ المعاصي من الكفر والشرك والنفاق وسائر الأعمال السيئة والخصال الذميمة والأخلاق القبيحة. قال الله تعالى : {والرجز فاهجر} والمراد بالرجز الأصنام، وهجرها ترْكُها والبراءة منها ومن أهلها، وقال النبي : >المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويدِه والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه< أي ترْك ما نهى الله عنه من الأعمال والأخلاق والأقوال والمآكل والمشارب المحرمة والنظر المحرم، والسماع المحرم، كل هذه الأمور يجب هجرها والابتعاد عنها. ومن أنواع الهجرة هجر العصاة من الكفار والمشركين والمنافقين والفساق، وذلك بالابتعاد عنهم قال تعالى : {واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا} أي اتركهم تركا لاعتاب فيه، ومن أعظم أنواع الهجرة هِجْرةُ القلوب إلى الله تعالى بإخلاص العبادة له في السر والعلانية حتى لا يقْصِدَ المومن بقوله وعقله إلاوجه الله، ولا يحب إلا الله، وكذلك الهجرة إلى رسول الله باتباعه وتقديم طاعته والعمل بما جاء به، وبالجملة فهذه الهجرةُ هجرةٌ إلى الكتاب والسنة من الشركيات والبدع والخرافات والمقالات والمذاهب المخالفة للكتاب والسنة فتَبَيَّن من هذا أن الهجرة أنواع هي : هجر الأعمال والأقوال الباطلة، وهجْر المذاهب والأقوال والآراء المخالفة للكتاب والسنة.
وإن كثيرا منا يتحدثون عن الهجرة، وهم لا يهجرون الكفار والمنافقين والفاسقين، بل يتخذونهم أصدقاء وأولياء من دون المومنين، يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرُون المذاهب الباطلة، والآراء المُضلة، والقوانين الكفرية، بل يجعلونها مكان الشريعة الإسلامية، يتحدثون عن الهجرة، وهم لا يهجرون المعاصي والأخلاق الرذيلة فلا يهجرون الأغاني الماجنة، والمزامير الفاتنة، والأفلام الخليعة، والمسلسلات الفاجرة، يتحدثون عن الهجرة، وهم لا يهجرون عادات الكفار وتقاليدهم، فأين هي معاني الهجرة وأنواعُها من تصرفات هؤلاء، إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم رد المسلمين إلى دينك رداً جميلاً واعف عنهم وفقّههم في دينك وسنة رسولك آمين والحمد لله رب العالمين.
ذ.محمد حطاني