كلما اشتدت وطأة الظلم على ديار المسلمين، وعاثت حوافر الغزاة في الحرث والنسل خرابا وتقتيلا، تجمح بنا ذاكرتنا المكلومة مستحدية لحظة من لحظات المجد الأثيل، نتذكر من غير أن نطوف بالدول والأفكار يوم جَهّز عثمان ] جيش العسرة دفاعا عن ثغور الأمة، ويوم أنفق كل ما حملته عير قافلته القادمة من الشام على فقراء المدينة التي حاصرها القحط واستبد بأهلها الجوع، مخيبا بذلك أمل التجار في الاستفادة من هذه اللحظة العصيبة، وكلما أوغلنا في الزمن المجيد، كلما أمسكنا بخيوط الحقيقة التي مفادها أن العزة تبنى بكرم الرجال.. بعيدا عن الزمن المجيد.. قريبا من الزمن البليد الذي نحن بصدده، نسمع عن الكرم الحاتمي الذي أغدق به بعض أغنياء أمتنا الجريحة على فنانات النصف الأسفل، ملايين الدولارات تنفق على الخواء والهراء، وليغرق العراق في دمه، ولتحرق إسرائيل حقول الزيتون وتدمر المنازل فوق رؤوس الفلسطينيين العزل.. وليقض جياع المسلمين تحت وطأة الفاقة.. إنه زمن الذل بامتياز.. يحكي الأستاذ أبو الأعلى المودودي رحمه الله في كتابه “نحن والحضارة الغربية” أن ملك ساجستان امتنع عن دفع الجزية فأرسل له خليفة المسلمين وفدا يحثه على إعادة الأمور إلى نصابها، فسألهم ملك ساجستان :
- أين القوم الذين كانوا يأتوننا قبلكم، كانوا يلبسون نعال الخوص ورث الثياب وعليهم أثر الجوع.. ولكنهم شديدي البأس.
فأجابه زعيم الوفد :
- لقد مضى زمن أولئك الرجال.
فقال الملك :
- عودوا من حيث أتيتم فليس لديكم عندي شيء تأخذونه.
وظلت ساجستان بعد هذا اللقاء خارجة عن سلطة الخلافة لأزيد من عشرين عاما..
إن النواميس التي وضعها الله في الكون لا تحابي أحدا ولو كان مسلما متوظئا، صائما، قائما، إذا لم يأخذ بأسباب الحضارة في شقيها الروحي والمادي، ويوم تنتفي الفوارق الاجتماعية من خلال دفع الأغنياء زكاتهم لمن يستحقها، ويرفع الظلم من قبل من حكمهم الله في رقابنا، نكون قد وضعنا أولى الخطوات على درب الألف ميل.