إن مشروعاً حضارياً يصاغ في مطالع القرن الحادي والعشرين، هو غيره في قرن مضى، وإن المعادلة الصعبة تكمن ها هنا : التحقّق بالشخصية الإسلامية في مستواها الحضاري قبالة شبكة معقدة من المتغيّرات والتأثيرات وعوامل الشدّ والتحديات. وأيضاً قبالة سيل لا ينقطع من المعطيات المتجددة المزدحمة التي تتطلب جواباً ” فقهياً ” يحفظ على هذه الشخصية ملامحها المتميزة، ويعينها على الإخلاص لثوابتها ” الشرعية “.
إننا عبر لحظتنا التاريخية الراهنة مدعوون ـ مثلاً ـ لتقديم جواب محدّد إزاء جلّ المفردات القادمة من حضارة الغرب المتفوّقة، والتي اقتحمت علينا حياتنا وخبراتنا حتى أبعد نقطة فيها. بمعنى أن صياغة المشروع الإسلامي يتطلب جهداً مزدوجاً : بناء المعطيات الإسلامية ابتداء، وقبول أو رفض أو انتقاء مفردات الآخر في ضوء معايير شرعية مرنة وصارمة في الوقت نفسه.
إننا مرغمون على أن ندخل حواراً مع حضارة الآخر، والهروب من المواجهة سيقودنا إلى العزلة والضمور.. كما أن قبول مفردات الآخر سيفقدنا خصائصنا، ولابدّ من تجاوز الحدّين المذكورين باتجاه صيغة عمل تسعى إلى أكبر قدر من توظيف المعطى الغربي المناسب لمشروعنا الحضاري.
إن أسلمة المعرفة -مثلاً- هي واحدة من هذه المحاولات : التعامل مع العلم الغربي، أو جوانب منه، بصيغة تضعه في نهاية الأمر في مكانه المناسب من خارطة المنظور الإسلامي للحقائق والنواميس والأشياء.
والاستجابة لمطالب اللحظة التاريخية ضروري على مستوى آخر، فإن جغرافية عالم الإسلام في أخريات القرن العشرين وبدايات القرن الذي تلاه ليست سواء، وظروفها التاريخية ليست سواء هي الأخرى. والتاريخ -كما هو معروف- لا يقاس بالمسطرة والبركار، ولابدّ إذن من البحث عن مشروع ذي مفاصل مرنة ومتغيرات شتى، تقوم على ثوابت مشتركة، ولكنها تقرّ بالتغاير الذي يسمح لكل بيئة إسلامية أن تختار أسلوب العمل المناسب الذي يخدم قضية النهوض الحضاري وينسج خيوطه.
فهنالك بيئات قد تصلح للنشاط العلمي أو الفكري أو الثقافي عموماً، ولكنها لا تتقبل النشاط التربوي أو الدعوي أو الحركي أو السياسي.. وبيئات أخرى قد تكون مهيئة للعمل المؤسسي وتتأبى على أي نشاط يخرج عن هذا النطاق.. وهكذا..
فإذا استطعنا أن نتقبل هذه الحقيقة التي قد تبدو للوهلة الأولى نقيضة لوحدة المشروع، وأن نحوّلها إلى أداة بناء وإغناء بمفردات متغايرة، تتحرك باتجاه هدف واحد، ووفق ثوابت موحدة، كنا قد وظفنا ضرورات الاختلاف للتحقق بوحدة ( موزا ييكية ) متناسقة تنطوي في الوقت نفسه على تنوعها الذي يصعب تجاوزه أو القفز عليه، وتعطيه الفرصة للتحقّق في إطار الإسلام، تماماً كما حدث عبر تاريخنا الإسلامي الذي شهد أممية مرنة استطاعت الجماعات والأقوام والشعوب خلالها أن تعبّر عن نفسها، وأن تتحقّق ذاتياً على المستوى الثقافي، ولكنها ظلّت ـ في الوقت نفسه ـ إلاّ في حالات استثنائية ـ مخلصة في ممارساتها إلى حدّ كبير، لوحدة الهدف والمصير.
من جهة أخرى فإننا لا نستطيع أن نقنع (الآخر) بمشروعنا ما لم نحوّل هذا المشروع من مستوياته التنظيرية إلى واقع نعيشه نحن، ونقتنع بجدواه وضرورته. بمعنى أن علينا لمدة زمنية قد تطول كثيراً الاّ نتحدث عن تقديم مشروعنا للغربي الحائر قبالة انهيار مذاهبه الشمولية، ونظمه وأنساقه الفكرية، وفلسفاته وأديانه المحرّفة.
إن محاولة كهذه أشبه بقفزة في الفضاء، ولابدّ ـ أولاً ـ أن نتقدم بهذا المشروع لذوات أنفسنا قبل أن نتحدث عن مأزق الآخر وحاجته إلى البديل.
إن رسول الله لم يتوجه بخطابه إلى حكام العالم قبل أن يقيم دولة الإسلام ويمكّن لعقيدتها وشريعتها في الأرض.. ومن ثم فإن رسائله إلى الأباطرة والملوك والأمراء، ما كان يمكن أن تمضي إلى هدفها في العصر المكي حيث لم يكن المشروع الإسلامي قد حقق فرصته التاريخية بصيغة دولة ذات شريعة تملك القدرة على دعوة الشعوب والحكام خارج جزيرة العرب.
إن عدداً من المتحدثين عن المشروع الحضاري يخلطون الأوراق، يتخيلون، وهم يتحدثون عن المشروع، أن مهمتّهم هي تقديم مشروعهم هذا ناجزاً للآخرين، وينسون أنهم هم أنفسهم لا يعرفون الكثير من مطالب المشروع، فضلاً عن كونه لم يدخل مرحلة التنفيذ الشامل بعد، وأنه ـ بدلاً من ذلك ـ يتحتم استدعاء كل الطاقات الإسلامية، في شتى مستوياتها، لجعل معطياتها تصبّ -وفق تصميم مرن مرسوم بعناية- في الهدف المرتجى من أجل البدء بنسج المشروع الذي ينتظره المسلمون أنفسهم، والذي يمثل بالنسبة إليهم الفرصة أو الخيار الوحيد لأن يجدوا ذاتهم على خارطة العالم.
باختصار فإننا لا نستطيع أن نقنع الآخر بمصداقيتنا الحضارية، بل أن نفلت من فلك جاذبيته القاهرة، ما لم نصنع لأنفسنا النسق الحضاري الذي يستمد مقوّماته من الأسس الإسلامية ويستجيب لمطالب اللحظة التاريخية.
أ. د. عماد الدين خليل