سجلنا في الحلقة الماضية (8)المحجة عدد: 485 وجهة نظر كل من الخليل وسيبويه وغيرهما فيما يخص اعتبار أحرف المباني أس البيان في اللغة العربية بصفة عامة.
ورأينا أن تعليل تسمية الحرف بهذا المصطلح له علاقة بوظيفة وروده في مواقع الكلمة الثلاثية الثلاثة: (أولها) و (وسطها) و(آخرها) باعتبارها أي المواقع الثلاثة أصولا للكلمة لاشتقاق غيرها منها بالزيادة في عدد أحرفها.
وقد مثلنا للمحاور الثلاثة التي يشغلها الحرف في أبنية الكلمات المشار إليها. كما مثلنا بصيغة (فِعالة) المزيدة ذات دلالتين: مجالية عامة بصيغتها، وحرفية خاصة بأحرفها.
وبما أن الدلالة المجالية تتعلق بالأبنية والمشتقات كما لاحظناه في صيغة (فِعالة) فإننا نؤجل تفصيل الحديث فيها إلى فترة لاحقة بإذن الله نخصصها لدراسة وظائف المشتقات المجالية بصفة عامة. ولذا نخصص الحديث في هذه الحلقة لتقديم أمثلة تطبيقية نوضح بها ما أشرنا إليه نظريا فيما يخص تأثير الحروف في بناء دلالة الكلمة. وهذا يتطلب استقصاء الحديث عن وظائف أحرف المباني في بنية الكلمة بصفة عامة التي ترد أصلية فقط، أو أصلية تارة وزائدة أخرى وما يأتي منها بدلا من غيره، وهذا أمر يتطلب تأليف معجم خاص بوظائف أحرف المباني في بنية الكلمة!
ولأجل توضيح هذه المسألة نقسم عرض الأمثلة التطبيقية في هذا المجال إلى نوعين: أولهما أمثلة منشورة في بعض كتب فقه اللغة. وثانيهما أمثلة مقترحة من خلال أنظمة بعض المعاجم لإثبات شمولية هذه الظاهرة في متن اللغة العربية، ونستهل عملنا هذا بالنوع الأول كما يلي:
أولا: نماذج من خلال كتب فقه اللغة وهي أنواع ثلاثة:
أولها: الكلمات المشتركة في الحرفين الأولين واختلافهما في الحرف الأخير: تعليل الاتفاق والاختلاف !
هكذا يتضح أن الكلمتين في المثالين أ-ب تتفقان في الحرفين الأولين كما تتفقان في دلالة المجال الذي هو نبع الماء من الأرض وهو ما تدل عليه الآية المستشهد بها “عينان نضاختان” لكن الفرق يكمن في قوة الحدث الذي يمثله الحرف الأخير من المثال ب وعلة هذا الفرق بقوة الحدث في نفس المجال هو إضافة نقطة فقط للحرف الأخير من الكلمة ب وعليه يمكن القول بأن كل واحدة من الكلمتين (نضح، ونضخ) تتضمن درجتين من الدلالة في نفس المجال. أولاهما دلالة عامة وهي الدلالة على نبع الماء من الأرض وهذه صفة تجمع دلالة الكلمتين في مجال واحد هو نبع الماء وثانية الدلالتين هي درجة قوة الحدث في نفس المجال فقوة النضح بالحاء المهملة غير قوة النضخ بالخاء المعجمة لأن الصفة المميزة لحرف الخاء هنا في هذه الكلمة هي الاستعلاء في حين أن صفة حرف الحاء المهملة هي (مستفل) والسؤال الذي يفرض نفسه بخصوص اجتماع دلالتي الكلمتين (نضح ونضخ) في المجال الذي هو نبع الماء من الأرض، ثم اختلافهما في درجة قوة الحدث هو إذا اتضح تعليل اختلاف درجة الحدث في نفس المجال بصفتي مستعل ومستفل. فما هي الصفات التي تجمع دلالتي الحرفين في مجال واحد؟
والجواب أنه عندما نعود إلى تتبع مخرج الحرفين وصفاتهما نجدهما متفقين فيها باستثناء الصفتين المشار إليهما بخصوص التفاوت في قوة الحدث فكل من حرفي الحاء والخاء مجهور رخو منفتح مخرجه من الحلق، فاشتراك الحرفين في المخرج بنسبة ما وفي معظم الصفات وحّد استعمالهما في مجال واحد . ثم يأتي اختلافهما في صفتين ليميز درجة قوة كل منهما عن الآخر في نفس المجال.
ما يستفاد من تحليل الكلمتين 1 – أ – ب.
يلاحظ من خلال تحليلنا للكلمتين أعلاه ظواهر ثلاثة ينبغي تسجيلها لبسط بحث خاص بكل منها وهذه الظواهر هي :
أ – أن الفرق بين الكلمتين حدث بإعجام حرف واحد منها وهذا ما يوجب تخصيص بحث لظاهرة الإعجام والإهمال في الكلمات التي تحمل هذه الظاهرة في اللغة العربية لمعرفة ما يترتب عنها
ب - ما مدى أطراف دلالة الحرف في بنية الكلمة الثلاثية بين الثنائية بالنسبة للحرفين الأولين، والأحادية بالنسبة للحرف الثالث الأخير من الكلمة بالكيف الذي لاحظناه في الكلمتين أ – ب
ج – نلاحظ أن سبب تفاوت دلالة الكلمتين في مجال واحد هو اختلاف الحرفين الأخيرين من الكلمتين – الحاء والخاء في صفتي: مستعل ومستفل. وهذا ما يوجب جرد صفات الحروف وجميع مقوماتها في بنية الكلمة وتصنيفها ليمكن الرجوع إليها بسهولة كلما اقتضى الحال.
هكذا يتضح في أحرف أفعال الثلاثة الأولى أنها ثنائية بمعنى أن الأفعال الثلاثة متفقة في الحرفين الأولين، ولذا رَكّز ابن جني في تفسير دلالة كل فعل الخاصة على سمات الحرف الأخير الذي يميز كل واحد منها، وقد أورد هذه التفسيرات في سياق عرضه لعدد من الأمثلة الدالة على مطابقة الألفاظ للمعاني انطلاقا من دلالات الحروف فيها وفي هذا يقول: (فأما مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث فباب عظيم واسع ونهج متلئب [أي مستقيم يقال اتلأب الأمر استقام] عند عارفيه مأموم، وذلك أنهم كثيرا ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبر بها عنها…) 2/157
هذه الفقرة الأخيرة من النص أعلاه ” يجعلون أصوات الحروف..” هي التي يطبّق ابن جني مضمونها في شرح الأمثلة التي نحن بصدد مناقشتها، وهذا ما يعنيه بقوله “فالتاء أخف الثلاثة فاستعملوها في الدم” وقوله (وجعلو الطاء وهي أعلى الثلاثة صوتا للقرط الذي يسمع) وقوله (فقرد من القرد لأنه موصوف بالقلة) وعليه فمن الواضح أن المركّز عليه في بنية كل كلمة من بين الكلمات الثلاثة المتفقة في الحرفين الأولين لإثبات المعنى المقصود هو الحرف الأخير لكل واحدة منها وهذا ما يجعلنا نسمي الحرف المميز للمعنى في مثل هذا النوع من الكلمات ، كما سنرى المزيد منها بالحرف المحور . لكن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو: ما هي وظيفة الحرفين الأولين المكررين في الكلمات الثلاثة؟
يتبع
د. الحسين كنوان
———
1 – يقول ابن منظور (نبك: النّبكة: أكمة محددة الرأس).
وقيل هي الأرض فيها صعود وهبوط .. ل ع 10 مادة بنك ص 497.