يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (الفرقان: 30).
هذه الشكوى من الرسول ، تعددت أقوال المفسرين بخصوصها في أمور عديدة، من ذلك اختلافهم في زمن وقوعها، فقال بعض المفسرين إنه اشتكى زمن حياته من تكذيب قريش له، وقال آخرون إنه حكاية عما سيشتكي به إلى الله تعالى يوم القيامة، كما اختلفوا في معنى اتخاذهم القرآن مهجورا، بين من قال إنهم قالوا عنه هُجرا من القول كقولهم إنه سحر أو أساطير الأولين، ومن قال إنهم هجروه بمعنى تركوا سماعه وتفهمهم والعمل به.
قال السمرقندي جامعا الأقوال في معنى الهجر في الآية: “ثم قال وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (الفرقان: 30).
يعني: متروكاً لا يؤمنون به، ولا يعملون بما فيه. وقال القتبي: يعني: جعلوه كالهذيان. ويقال: فلان يهجر في منامه، أي يهذي. وقال مجاهد: يهجرون منه بالقول، يعني: يقولون فيه بالقبيح”(بحر العلوم 2/536).
وإذا رجعنا إلى معاني الهجر في اللغة، نجدها تدور على معنيين أو ثلاثة وهي الترك والمفارقة للشيء، والقول الفاحش و الهذيان.
قال الفراهيدي: “والهَجْرُ والهِجْران: تركُ ما يَلْزَمُك تَعَهُّدُه”(كتاب العين/هجر).
وقال ابن فارس: “الْهَاءُ وَالْجِيمُ وَالرَّاءُ أَصْلَانِ يَدُلُّ أَحَدُهُمَا عَلَى قَطِيعَةٍ وَقَطْعٍ، وَالْآخَرُ عَلَى شَدِّ شَيْءٍ وَرَبْطِهِ. فَالْأَوَّلُ الْهَجْرُ: ضِدُ الْوَصْلِ. وَكَذَلِكَ الْهِجْرَانُ”.
إلى أن قال: “وَمِنَ الْبَابِ الْهُجْرُ: الْهَذَيَانُ. يُقَالُ هَجَرَ الرَّجُلُ. وَالْهُجْرُ: الْإِفْحَاشُ فِي الْمَنْطِقِ، يُقَالُ: أَهْجَرَ الرَّجُلُ فِي مَنْطِقِهِ.” ثم قال: “وَرَمَاهُ بِالْهَاجِرَاتِ، وَهِيَ الْفَضَائِحُ، وَسُمِّيَ هَذَا كُلُّهُ لِأَنَّهُ مِنَ الْمَهْجُورِ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ”(مقاييس اللغة/هجر).
يتضح مما سبق أن تعدد الأقوال في معنى اتخاذهم القرآن مهجورا، يرجع إلى أصل الكلمة، وهل هي من الهَجر بفتح الهاء، أم من الهُجر، بضمها، إذ معنى الأول الترك، ومعنى الثاني القول الفاحش أو الهذيان.
لكن المعنى الذي قال به معظم المفسرين هو الأول، قال المراغي في تفسيره للآية بعد أن عدد أقوال المشركين في الرسول وفي القران الكريم كما وردت في الآيات السابقة: “أعقب ذلك بشكاية الرسول إلى ربه بأن قومه قد هجروا كتابه، ولم يلتفتوا إلى ما فيه من هداية لهم، ورعاية لمصالحهم في دينهم ودنياهم” (تفسير المراغي -19/9).
وقال ابن كثير في معنى الآية: “يقول تعالى مخبرا عن رسوله ونبيه محمد -صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين- أنه قال: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (الفرقان: 30).
وذلك أن المشركين كانوا لا يُصغُون للقرآن ويصدون الناس عنه، كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُون (فصلت: 25) وكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره، حتى لا يسمعوه. فهذا من هجرانه، وترك علمه وحفظه أيضا من هجرانه، وترك الإيمان به وتصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدولُ عنه إلى غيره -من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره- من هجرانه” (تفسير القرآن العظيم-6/108).
وأورد الثعلبي الأقوال في معنى الآية ثم ساق بسنده حديثا يؤيد به معنى الترك للعمل بالقرآن وهو قوله : «من تعلّم القرآن وعلّمه وعلّق مصحفا لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلّقا به يقول: يا ربّ العالمين عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني وبينه» (الكشف والبيان عن تفسير القرآن-7/132) .
وفائدة الاستعمال القرآني للفظ الاتخاذ مهجورا، بدل لفظ الهجر، نجدها في قول الشيخ الطاهر ابن عاشور، قال: “وَفِعْلُ الِاتِّخَاذِ إِذَا قُيِّدَ بِحَالَةٍ يُفِيدُ شِدَّةَ اعْتِنَاءِ الْمُتَّخِذِ بِتِلْكَ الْحَالَةِ بِحَيْثُ ارْتَكَبَ الْفِعْلَ لِأَجْلِهَا وَجَعَلَهُ لَهَا قَصْدًا. فَهَذَا أَشَدُّ مُبَالَغَةً فِي هَجْرِهِمُ الْقُرْآنَ مِنْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْمِي هَجَرُوا الْقُرْآنَ.وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي هذَا الْقُرْآنَ لِتَعْظِيمِهِ وَأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُتَّخَذُ مَهْجُورًا بَلْ هُوَ جَدِيرٌ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ” (التحرير والتنوير 19/17).
وأما عن زمن هذا القول من الرسول ، فبالرجوع إلى السياق يترجح أنه يوم القيامة، لأن الآيات السابقة تحدثت عن مشاهد يوم القيامة ابتداء من الآية 17، في قوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيل (سورة الفرقان). إلى أن يقول عز من قائل ابتداء من الآية 22: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (الفرقان 22-30).
ولعل القول بأن شكوى الرسول ستكون يوم القيامة، يؤيد أن معنى الهجر يشمل كل نوع من أنواع الإعراض عنه: من ترك الاستماع إليه، وترك تدبر معانيه، وترك العمل بهداياته، وترك الافتقار إليه، وترك الاحتكام إليه والاهتداء بأحكامه.
ويفهم هذا المعنى، في سياق القصد من إنزال القرآن، إذ لم ينزل لسماعه فقط، بل أنزل لكل ما ذكر آنفا، يقول سيد قطب في تفسيره: “إن هذا القرآن هو معلم هذه الأمة ومرشدها ورائدها وحادي طريقها على طول الطريق… ولو ظلت هذه الأمة تستشير قرآنها وتسمع توجيهاته وتقيم قواعده وتشريعاته في حياتها، ما استطاع أعداؤها أن ينالوا منها في يوم من الأيام.. ولكنها حين نقضت ميثاقها مع ربها وحين اتخذت القرآن مهجوراً- وإن كانت ما تزال تتخذ منه ترانيم مطربة، وتعاويذ ورقى وأدعية! -أصابها ما أصابها-” في ظلال القرآن.2/859.
فسماعه وحده لا يكفي، لا ولا يكفي حتى حفظه في الصدور ما لم يُنزل في واقع المسلمين بتشريعاته وأحكامه وهداياته، بشكل يحقق للبشرية السعادة في الدنيا والأمان في الآخرة.
وهذه المعاني كلها يؤيدها قوله عز من قائل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى(طه 122 – 124).
والله تعالى أعلم وأحكم.
دة. كلثومة دخوش