إن ما تعيشه شعوبنا من تخلفٍ حضاري مَهين، ومن استبدادٍ فرعونيٍّ قاتل للكرامة الإنسانية، ومن جَهْل غليظ بأبسط شؤون الحياة والأحياء، وأبسط شؤون الكون وقوانينه المتناسقة والمتناغمة مع العقل الإنساني المؤهَّل لتسخيرها والاستفادة منها، وأبسط قوانين التعاملات التعايشية في نطاق الأسرة، والحي، والمدينة، والدولة، والأمة.. إلى غير ذلك من ميادين التخلف المتعددة الجوانب. هو العائق الأساسي في انطلاقتها الحضارية.
هذه الميادين المتخلفة سبَقنا إليها غيرُنا، وإلى ما هو أفظع منها من الدّول التي تقتعدُ اليوم قمة الحضارة المادية، يوم كنا نحن نعيش في بحبوحة الحضارة المادية والمعنوية، ولكن هؤلاء نفضوا عَنْ أنفسهم غُبار الجهل، وغبار الرِّضى بالاستبداد المغلَّف -أحيانا- بالدين المزوّر، والمغلف -أحيانا- بالسلالة العرقية النقية، والمغلف -أحيانا- بالطغيان الإقطاعي والعسكري..
فقاوموا الجهْل ولو أدّوا ثمنَه شنقا وذبحا وخنقا وتعذيبا وتجويعا، وقاوموا الطغيان ولو أدَّوا في سبيله ثمنَ التضحية بالملايين من أجل رؤية وجه الحرية المشرق، بحريّة الإبداع العلمي بدون تحجير، وحرية اختيار الحكام والممثلين للشعوب بكل شفافية ونزاهة، وحرية الرّأي في أي شأن من الشؤون بدون خوف من مراقبة حسيب، أو محاكمة ظالم غشوم، وحرية النقد البناء لأعظم الرؤوس الحاكمة أو المسيّرة لدواليب الدولة، وحريّّة الفضح لأي تصرُّف منحرف ولو كان صاحبه على رأس قمة السلطة. فانطلقت الشعوب تبني نفسها وفق دساتير وقوانين لا يجرؤ أحدٌ على خرق أي بند من بنودها مهما خاتل أو تحايل، وبذلك شقت طريقها في ميدان الحضارة المادية التي تكاد تشبه المعجزة.
فالشعبية عند هؤلاء تُكَْتسب بمدى القدرة على الإبداع في البرامج التي تزيد شعوبها تقدُّماً على تقدم، وتحضراً على تحضر، كما تُكْتَسَب بمدى الالتزام بخدمة المصلحة العامة، ومدى الالتزام بالمحافظة على سيادة القانون، وسيادة أخلاق الحرية والكرامة والحقوق الإنسانية -بمفهومهم الخاص- لإنسانهم الذي هو في نظرهم أعلى من كُلّ إنسان.
أمّا نحن -الشعوب الإسلامية بصفة عامة- فإننا نعيش في ظل هذه الحضارة المُلْتهِمَة والمتسارعة متفرِّجين مندهشين نستهلك بدون فهْم ولا مساهمة في إنتاج، سواء كان هذا الإنتاج فكريا أو ثقافيا، أو إعلاميا، أو صناعيا، أو قانونيا، أو دستوريا، فنحن نستقبل ولا نُرْسل شيئا، ونأكُل ولا نهضم شيئا، كأننا نعيش خارج التاريخ، أو خارج الزمن، أو كأننا مجردُ حقل لتجارب الآخرين، يعلِّموننا الديمقراطية المغشوشة، ويعلموننا الدّين الذي يخترعونه لنا، ويعلموننا حقوق الإنسان الخاصة بنا، ويعلموننا الحرية التي تذيب شحصيتنا في خليط عجيب منالمسخ والتدجيل، لأننا -في نظرهم- لا نستحق أن نكون مثلهم، ولا نستحق أن نعيش بديننا ومُثُلنا وكرامتنا وبساطتنا، ولذلك اختلقوا لنا خليطا عجيباً فوق الحيوانية، وتحت الإنسانية.
ورضينا نحن بهذا الخليط العجيب الذي سَحَرَنا، وخَطَف َ أبْصارنا فصِرْنا معْصُوبي العيون وراء السحر المادي الذي أنسانا كلَّ شيء :
> أنسانَا ديننا الذي هو أساس حضارتنا المادية والمعنوية والتي لا تضاهيها حضارة.
> وأنْسانا قرآننا الذي هو روحنا، ونورنا، وشفاؤنا من كل الأمراض، بل هو شفاء الإنسانية ومنقذها.
> وأنْسَانا رسولنا الذي هو قدوتُنا في كل شأن من شؤون الحياة، بل هو قدوة الإنسانية العاقلة.
> وأنْسانا تاريخنا الذي لا يضاهيه تاريخ، حتى أصبحنا كالأيتام في مأدبة اللئام، أو كاللقطاء في حظيرة الملاجئ الخيرية.
> وأنْسانا لغتنا حتى أصبَحَت ألْسُننا رقيعة لا هي عربية، ولا هي عجمية، ولا هي بربرية.
>وأنسانا ثقافتنا حتى أصبحنا عالة على المستعمر في المؤتمرات، والحوارات، والأفكار، واختيار مواضيع اللقاءات والمنتديات.
وبالنسبة لنا -نحن المغاربة- قد حاولنا التشبه بالمستعمر في ميدان الحرية والديمقراطية وسيادة القانون، كما حاولنا التشبُّهَ به -أيضا- في ميدان التعددية السياسية، والدعاية الانتخابية، فجئنا في كل ذلك بالمضحكات المبكيات.
> فالحرية عبارة عن حماقة وتَلَف وتيهان بدون هَدَف ولا غاية.
> والديمقراطيةُ عبارة عن تكريس للمحسوبية والإقطاعية.
> وسيادةُ القانون عبارة عن تسليط القويّ على الضعيف.
> والتعدد السياسي عبارة عن دكاكين متشابهة لبضاعة واحدة استهلكتْها التجارب الفاشلة على مدى أكثر من نصف قرن مِما سُمِّي بالاستقلال.
> والدعاية الانتخابية عبارة عن إشباع البطون وشراء الضمائر والذمم الرخيصة التي لا تفهم طموحاً ولا تقدماً ولا إصلاحاً.
وإذا كانت بعضُ الكُتل الوطنية التاريخية قد تصدَّّتْ بصدْق لمقاومة الاستعمار وطرده من البلاد التي احتلها عقوداً، فهي إنما فعلت ذلك غَيْرةً على الدين الذي لا يسمح للكافرين بالسيطرة على المسلمين، لأن كلمة الله عز وجل هي العليا، فلا ينبغي أن تعلُوها كلمة {ولنْ يَجْعَل اللّه للكَافِرين على المومنين سبِيلا}(النساء : 141).
فتجاوب الشعب المغربي كغيره من الشعوب الإسلامية مع هذه الكتل والفئات الوطنية المخلصة في جهادها للكفر الظالم الطاغي، فحَمَتْها وزوَّدتها بما تحتاج إليه من المدد والتضحية والتخطيط، وتكفلت بأسر الشهداء وأيتامهم في تكافل عجيب، وتواثق روحي فريد، لا فرق في ذلك بين الشيوخ والشباب، وبين الرجال والنساء، وبين سكان الحواضر والبوادي، ولا فرق في ذلك بين البيضاوي والفاسي والسوسي والأمازيغي والريفي.
فالكل يجمعهم هدف واحد هو محاربة الكفر الجاثم على صدور المسلمين.
واكتسب زعماء المقاومة السياسية والجهادية شعبية كبيرة تكاد تصل إلى درجة التقديس، إلا أن الكارثة حلَّت بالشعب يوم خرج جسْمُ الاستعمار، وتوَلَّت أزلامُه التي تعيش بروحه شؤونَ الحكم في البلاد بواسطة رجال من بني جلدتنا يخدعون الشعب بمختلف الشعارات، ويتبنوْن سرّاً وعلناً سياسة المستعمر وتخطيطاته وتعليماته في مختلف الميادين.
أما الإسلام الذي كان له الدورالأساسي في إخراج المستعمر فقد تُنُوسِيت شريعته، وعقيدته، ومبادئه، وأخلاقه، وحُكْمه، وسياسته العادلة.
وأُهْمل كتابه الخالد -القرآن- إهمالاً كليا في المدارس الحديثة التي أخرجت شباباً ينهلون من مختلف الفلسفات البشرية الكافرة بالدين وبكل القيم السماوية.
فتعدّدت المدارس العميلة للتيارات الأجنبية، وتآمرت، وتطاحنت على الحكم بصفته الغاية للمصالح الشخصية والحزبية، وليس الحكْمُ بصفته الوسيلة للإصلاح.
وتكونت طبقات وفئات وتيارات مدعومة من الانتهازيين الذين يعادون الإسلام أكثر من معاداة الاستعمار له.
فكانت نتيجة الحصادِ المُرِّ لأكثر من نصف قرن مما يُسمى بالاستقلال :
> انقساماً مريعاً بين مختلف التيارات اليسارية واليمينية التي يجهلها الإسلام ولا يعترف بها.
> وانقساماً مريعا بين مختلف الأعراق والجنسيات الدّموية والعصبيات الفكرية التي حاربها الإسلام بدون هوادة.
> وانقساماً مريعا بين دعاة التحديث المتعفِّن ودعاة التجديد المعَقلَن الذي لا ينكره الإسلام.
> وانقساماً مريعا بين مختلف الولاءات للأجنبي الذي صار يفترس الأرض والعرض، ويؤمم كل الثروات والاختيارات.
فلم تبق للشعب ثقة في أحزابه المتناسلة، بل اهتزت اهتزازاً مريعاً وصلت إلى الحضيض في الانتخابات الأخيرة، حيث فضلت الاحتجاج الصامت على الخواء السياسي، والخواء الروحي، والخواء الفكري، والخواء الرسالي والخواء الإبداعي، والخواء الإصلاحي للمستقبل البعيد، فنزع الله عز وجل محبتها من قلوب الشعب لأنها قطعت صلتها بالأواصر الإيمانية، وقطعت صلتها بتطلعات الشعب، وقطعت صلتها بصدق التوجُّه للنهوض والإِنهاض، وأصبحت تخاطبه بلغة النفاق والمخادعة، بينما طريق اكتساب الشعبية في المجتمعات الإسلامية هو طريق واحد، هو طريق الإخلاص لله والرسول، وطريق الإخلاص للدين والعمل بشريعته عقيدة وحكما وسياسة، قال الله تعالى {إنّ الذِين آمنُوا وعَمِلوا الصّالحَات سيَجْعل لَهُم الرّحمان وُدّاً}(مريم : 96) وقال : >إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل عليه السلام وقال له : إني أحب فلانا فأحبّه، ثم ينادي جبريل في الملإ الأعلى : إن الله يحب فلانا فأحبُّوه، فيوضع له القبول في الأرض< أو كما قال .
فلا خيارَ لنا بعد التجارب الطويلة التي لم تثمر إلا جهلا وتمرُّداً وكفراً بكل الزعامات والقيادات، إلا الرُّجُوع للدين الذي جمع الشعب على المقاومة للاستعمار، وباستطاعته أن يجمع الشعب مرة أخرى على النهوض السريع، إذا راجعتْ النُّخب القيادية -بتجرُّد- مَواطِن هروب الشعب منها، ومَواطن زهادة الشعب في مرجعياتها المهترئة التي لا تُصْلح دنيا ولا أخرى، وإلا أوْصَل التمادي في عدم المبالاة إلى حافة اليأس المُدَمِّر {وإن تَتَولّوا يستَبْدل قوماً غيركُم ثم لا يكُونُوا أمثالكم}(محمد : 38).