الإسلام وما بعد الحداثة الوعود والتوقعات (2)
قراءة في كتاب لمؤلفه: أكبر صلاح أحمد الباكستاني
ما بعد الحداثة عبارة مشهورة جدا تتداول على نطاق واسع جدا حتى أصبحت كل فروع المعرفة في المجال الأكاديمي، أو السياسي، أو الديني ينظر إليها بمنظار ما بعد الحداثة، فنجد كتبا تحمل عناوين، من مثل:
الله والدين في عالم ما بعد الحداثة 1989
رئيس ما بعد الحداثة في أمريكا 1988
عقل ما بعد الحداثة 1989
وعقد مؤتمر دولي في لندن من طرف مجمع البحوث الإسلامية islamicreasearchacademy حول بيت المقدس بين الفقه الإسلامي والقانون الدولي يوم 24 أكتوبر 2000م، ومن العروض التي قدمت في المؤتمر عرض لمايكل هيدر بعنوان: “موقف ما بعد الحداثة من بيت المقدس”. وقبل هذه العناوين كتاب آخر لواحد من أبرز مفكري ما بعد الحداثة هو جان فرنسوا ليوطار:
حالة ما بعد الحداثة:
ليس ما بعد الحداثة مفهوما مجردا أو نقاشا أكاديميا في الصالونات الأدبية المغلقة بمعزل عن الحياة الواقعية، بل إن ما بعد الحداثة سمة مميزة لحقبة من تاريخ الإنسان المعاصر، وهي العشرية الأخيرة من القرن العشرين التي وفرت إمكانيات غير مسبوقة للتلاقي بين الأجناس والثقافات والحضارات، وقد رأينا رأي العين نموذجا خاصا لالتقاء أجناس مختلفة من كل بقاع الدنيا عندما غزا العراق الكويت صيف 1990، وكيف اجتمع الناس: أبيضهم، وأسمرهم، وأصفرهم، وصهروا في بوتقة واحدة تحت مظلة الأمم المتحدة.
إن ما بعد الحداثة إذن يعني ببساطة المرحلة التي أعقبت الحداثة، وتبدأ مع تشكل نظام عالمي جديد سنة 1990 مع الإشارة إلى أنه كثيرا من سمات الحداثة ما زالت مستمرة في مرحلة ما بعد الحداثة .
وحيث إن مفهوم ما بعد الحداثة أو الحداثة الجديدة كما يقترح بعضهم ، مراوغ ورجراج وغير منضبط يعتريه بعض الغموض فسنحاول توضيحه أكثر بذكر بعض صفاته أو ملامحه :
سمات أو ملامح ما بعد الحداثة:
من أبرز سمات ما بعد الحداثة:
1 - لا مكان للاعتبارات الدينية والغيبية في فلسفة ما بعد الحداثة، لأن الحداثة قبلها همشت دور الدين فهو في أحسن الأحوال علاقة شخصية بين الإنسان وخالقه.
2 - ليست هناك حقيقة مسلمة يقينية في فكر ما بعد الحداثة، بل حقائق شتى متعددة يصوغها الإنسان بنفسه، ويختار منها ما يريده حتى ولو كانت في منتهى الشذوذ.
3 - لا يخضع النظام الأخلاقي في فلسفة ما بعد الحداثة لاعتبارات قيمية مطلقة، بل الأخلاق تنطلق من اتفاقيات محدودة الشرعية تمليها مصالح الفرد والمؤسسات المهيمنة.
4 - تؤكد فلسفة ما بعد الحداثة على ضرب الخصوصيات القومية وأنظمتها المرعية لضبط مصالح شعوبها، فالهوية الدينية والخصوصية القومية لا مكان لها في السوق العالمية.
5 - الربط بين ما بعد الحداثة وتشكل الحركات الأصولية الدينية. والأصولية، كما تتداولها وسائل الإعلام، ليست قصرا على الدين فالماركسية اللينينية أصولية، والهندوسية في الهند أصولية، والبوذية في التايلاند أصولية.
ولكن الأصولية الأكثر إثارة للاشمئزاز في الميديا الغربية هي الأصولية الإسلامية، بل إن الأصولية في الإعلام كثيرا ما يراد بها الحركات أو الجماعات الدينية في الإسلام.
6 - من سمات ما بعد الحداثة الحواضر الضخمة، إن تضخم المدن من خصائص ما بعد الحداثة، المدينة الناعمة حيث العنف والوحشية، والاغتصاب، والقتل بدم بارد، والليل فيها جحيم، تقتل المدينة الماء، والهواء، والمساحات الخضراء. والفلسفة التي يتصرف بمقتضاها ساكن المدينة: لا تكره نفسك، هناك أمور كثيرة تصلح أن تكون موضوعا لكراهيتك: انظر إلى تلك البيوت، وإلى تلك المخازن، وإلى تلك السيارات، لماذا لا تكون في ملكيتك، إنها تناسبك، خُذْها.
إن المشكلة الكبرى أن المدينة تجرد الإنسان من آدميته وإنسانيته.
الإنسان في مدينة ما بعد الحداثة متوتر، عنيف، عدواني، مندفع، منهَك، عُصابي، وباختصار مجرد فن آدميته.
إن المدينة في عصر ما بعد الحداثة في طريقها إلى أن تكون مجتمعا تسكنه الشياطين.
7 - المزج الواضح والجمع بين مذاهبَ واتجاهات وتيارات وخطابات مختلفة وأنماط شتى، وحقب تاريخية مختلفة:
العطر الفرنسي، والموضة الإيطالية، ووجبات ماكدونالد، والاستماع إلى موسيقى الراب في غياب معايير جمالية محددة.
إنتاجات أدبية وفنية وموسيقية مؤلفة من عناصر متباينة ضُمّ بعضها إلى بعض، تجمع بين الرفيع والرقيع، بين الراقي والسوفي. والسبب في جمع هذه الأخلاط هو تلاقي الثقافات وانتقال الأفراد من قارة إلى أخرى رغم القيود المفروضة على السفر، إلا أن التداخل والتشابه والاحتكاك قائم وموجود.
8 - لكن أبرز خصائص مابعد الحداثة الحضور القوي لوسائل الإعلام، ولذلك يخصص له الكتاب فصلا كاملا من حوالي 50 صفحة بعنوان: “جبروت الإعلام”، ويعتبره موضوعا ذا أهمية قصوى، لأنه وثيق الصلة بالإسلام، وطبيعة العلاقة بين الإسلام وما بعد الحداثة.
ويرى أن أخطر تهديد يهدد حياة الإنسان في عصر ما بعد الحداثة هي تكنولوجيا الاتصالات التي تقتحم على الناس بيوتهم، لم يعد العالم يبدأ من عند عتبة الباب، بل أصبح العالم في قلب المنزل.
إن صورا تلفزيونية منتقاة بعناية تستطيع أن تدمر بلدا بكامله كما لو أنها أسطول من السفن الحربية، أو أسراب من قاذفات القنابل.
والعبارة المجازية التي نرددها من أن العالم قرية صغيرة، أو القرية العالمية ل”مارشال ماكلوهان” بالغة الدلالة على خطورة وسائل الإعلام، أو الميديا، وهي حقيقة ثابثة لا مجال لإنكارها.ففي عصر ما بعد الحداثة لا شرق، ولا غرب، أمام قوة وسائل الإعلام وجبروتها.
د. محمد بوحمدي