أ- فأمّا ما يتعلّقُ بالعنوانِ والموضوعِ،فمؤداهُ أنّ العنوانَ المثبتَ على واجهةِ البحثِ يدلُّ على الموضوعِ المطروقِ، و يُتَّخَذُ عَلَمًا عليه، ويُعَدُّ أوجَزَ عِبارةٍ تختصرُ البحثَ كلَّه. وتقتضي هذه الصّفاتُ أن يختارَ الباحثُ من العَناوينِ أوجَزَها و من الألفاظِ أقلَّها، فيخْتار الألفاظَ اختيارًا يتحرّى فيه الدّقّةَ البالغةَ في الدّلالةِ، و ينزِّلها منزلةَ المصطلَحاتِ الصّارمةِ والمَفاتيحِ المناسبةِ التي تلجُ بالقارِئِ في عالَمِ الموضوعِ. ولا شكّ أنّ الإيجازَ في العِبارةِ من خصائصِ اللّغةِ العربيّةِ الفصيحةِ، و يشهدُ على كثيرٌ من النّصوصِ المأثورةِ في تاريخِ الأدبِ العربيِّ، و نُصوصُ القرْآنِ الكريمِ على رأسِها، و كذلكَ نُصوصُ الحديثِ النّبويِّ الشّريفِ الحافلةُ بجوامعِ الكلِمِ.
لكنّ المُلاحَظَ أنّ بعضَ العناوينِ التي اختارَها بعضُ الباحثينَ لبحوثِهم العُليا يعتريها ما يُخالفُ المقاييسَ المذكورةَ، فتَرِد ذاتَ طولٍ غيرِ مرغوبٍ فيه؛ لأنّ الطّولَ و الإسهابَ في ألفاظِ العناوينِ، يخرُجُ بالعُنوانِ عن وظيفتِه، و لا يُناسبُ المَقاصدَ المنوطةَ به في الأصلِ؛ و هي اختزالُ مضمونِ البحثِ كلِّه في بضعةِ ألفاظٍ. و مردُّ هذا الحرصِ على الطّولِ إلى رغبةِ الباحثِ في تفصيلِ البيانِ و ذكرِ كلِّ ما يتعلّقُ بالموضوعِ على ظهرِ العنوانِ، و هذا ممّا يُرهِقُ الإدراكَ -الذي يُناسبُه أن يهجمَ على الشّيءِ في إجمالِه قبلَ النّظرِ في تفاصيلِه– ويزجُّ به في متاهاتٍ لفظيّةٍ يفقدُ فيها رأسَ الأمرِ و لا يظفرُ إلاّ ببعضِ العناصرِ، و قد يكونُ أمرُ الطّولِ راجعًا إلى الباحثِ نفسِه إذا كانَ مفتقِرًا إلى قدرَةٍ لغويّةٍ على الاختزالِ و اختيارِ أنسبِ الألفاظِ لعنوانِه، أي إنّ أمرَ الطّولِ قد يكونُ راجعًا إلى افتِقادِ ملَكَةِ الإيجازِ و التّركيزِ.
و إلى آفةِ طولِ العَناوينِ، يُلاحَظُ أنّ هذه العناوينَ قد ترِدُ ذاتَ تَعقيدٍ في العِبارةِ، وتقديمٍ لِما ينبغي أن يُؤَخَّرَ و تأخيرٍ لِما ينبغي أن يُقَدَّمَ، و اضطرابٍ و حَشوٍ، و غيرِ ذلك من المظاهرِ التي تعكِّرُ صفوَ العنوانِ البسيطِ ذي العبارةِ السّهلةِ النّاصعةِ، التي ينبغي أن تعتمدَ في الغالبِ على خبرٍ ذي مبتدإٍ محذوفٍ، و تتبعُها شبهُ جُملةٍ من الظّرفِ أو الجارِّ و المجرورِ، تُقَيِّدُ الجملةَ الاسميّةَ، هكذا : «ظاهرةُ”…”في كِتابِ”…”»، و قد يُضافُ إلى ذلكَ إشارةٌ عامّةٌ إلى منهجِ الدّراسةِ: «ظاهرةُ”…”في”…”، دِراسةٌ لغويّةٌ (أو أدبيّةٌ أو نفسيّةٌ أو اجتماعيّةٌ )» .
ب - و أمّا الشّواهدُ و الأمثلةُ،فالمَلحوظُ فيها عدمُ الاعتدادِ بضبطِ ألفاظِها في غالبِ الأحيانِ؛ و المعلومُ أنّ ضبطَ الشّواهدِ شرطٌ في قراءتِها القراءةَ السّليمةَ و تخريجِها كَما وردت في مصادرِها. و قد يتعيّنُ ضبطُ النّصِّ برمّتِه إذا كان البحثُ تحقيقًا لنصٍّ مخطوطٍ و آفةُ البحثِ المُحقِّقِ إهمالُ الشّكلِ للنصِّ و للعباراتِ المُشكلةِ.
و ممّا يُثيرُه عدمُ شكلِ الشّواهدِ و العباراتِ المشكلةِ و النّصوصِ المُحقَّقَةِ عَناءُ القارئِ في تبيّنِ الألفاظِ التي تعبّرُ عن المعاني، و اضطِرابُه بين احتمالاتٍ إعرابيّةٍ مختلفةٍ للفظٍ واحدٍ.
إنّ الحركاتِ التي نُغْفِلُ قيمتَها و لا نهتمُّ بإثباتِها في مواضعِها من النّصِّ «هي حروفٌ متمّمةٌ للكلماتِ، و قد أُهملت كثيرًا حتّى ظنّها بعضُ المعاصرينَ قيَمًا صوتيّةً ثانويةً، فتسامحوا فيها بالحذفِ و التّغييرِ و التّشويهِ، إنّها في أوّلِ الكلمةِ و وسطِها و آخرِها حروفٌ كاملةٌ تُسهمُ في تأديةِ المعنى و تحديدِه، فإن لم تُعطَ حقَّها، في القراءةِ و الكلامِ و التّفكيرِ، فسَدَ المعنى أو دخلَه الاختلالُ و السّطحيّةُ، فلا بدّ من إثباتِ كلِّ رمزٍ صوتيٍّ يساعدُ على ضبطِ الكلمةِ حركةً كانَ أم همزةً أم تضعيفًا أم تنوينًا»(1).
و تدوينُ رسمِ الحرفِ العربيّ عارِيًا عن الحركاتِ، يَفْتَرِضُ في القارئِ أنّه سيتوصَّلُ إلى تقديرِ هذه الحركاتِ و فهمِ المَعْنى المرادِ، و لو اكْتَفَيْنا برسمِ الحروفِ العربيةِ وحدَها، وأَسْقَطْنا الحركاتِ التي هي أصواتُ مدٍّ قصيرةٌ، لتَرَكْنا أصواتَ المدِّ الطّويلةَ وحدَها، و هي حروفُ المدِّ و اللّين، تُتمِّمُ الدّلالةَ على المعنى، و هو عيبٌ كبيرٌ ترتَّبَ عليه أضرارٌ كثيرةٌ(2)، منها أنّ القارئَ لنصٍّ عربيٍّ، لا يستطيعُ أن يقرأَه قراءةً صحيحةً، شاكِلاً جميعَ حروفِه شكلاً صحيحًا، إلاّ إذا كان مُلِمًّا بقواعدِ العربيّةِ و أوزانِ مُفرَداتِها إلمامًا تامًّا، و كانَ فاهمًا من قَبْلُ معنى ما يَقْرَؤُه، و المعروفُ في مُعْظَمِ اللّغات الأوربّيّةِ أنّ النّاسَ يقرَؤونَ ما تقعُ عليه أبصارُهم قراءةً صحيحةً، و تُتَّخَذُ القراءةُ وسيلةً للفهمِ، أمّا في الرّسمِ العربيّ غيرِ المشكولِ بالحركاتِ فلا يستطيعُ القارئُ أن يقرأَ قراءةً صحيحةً إلاّ إذا فهمَ أوّلاً ما يُريدُ قراءَتَه. و من هذه الأضرارِ أنّ النّصَّ العربيَّ الواحدَ عُرْضةٌ لأن يُقرأَه القُرّاءُ قراءاتٍ شتّى بعيدةً عن الفُصحى، متأثِّرينَ بلهَجاتِهم و طُرِقِهم غيرِ الفصيحةِ في وزنِ الكلماتِ، و لقد أدّت هيمنةُ الدّوارِجِ على القرّاءِ في قراءاتِهم للنّصوصِ، إلى إشاعةِ اللَّحْنِ و إهمالِ القواعدِ، و العَملِ على انحِلالِ العربيّةِ الفصحى والحُؤولِ دونِ تثبيتِ مَلَكَتِها في النّفوسِ. و قد وقع كثيرٌ من وِزْرِ هذه الأضرارِ على طريقةِ كتابةِ الأطروحاتِ الجامعيّة …
و لم يقف الأمرُ عندَ هذا الحدِّ –أي إهمال علاماتِ الشّكلِ، و هي علاماتٌ صوتيّةٌ تُحافظُ على علاماتِ إعرابِ الكلماتِ– بل تعدّاه إلى صيغةِ النّطقِ بالكلماتِ أو التّأديةِ الصّوتيّةِ لها؛ ففي المقدّماتِ الشّفويّةِ التي يقدِّمُ بها الباحثون أعمالَهم و يُدافعونَ بها عنها بينَ يدي لجنةِ التّحكيمِ، يُلاحظُ ضعفٌ سافرٌ في مستوى النّطقِ العربيِّ الفصيحِ، و هذا مَظهرٌ من مظاهرِ المُعاناةِ التي تشتكي منها العربيّةُ اليومَ؛ حيثُ تأثّرَ الأداءُ الفصيحُ باللّهجاتِ المحلّيةِ التي جمدَت عليها ألسنةُ النّاطقينَ، و لم يسلمْ من هذا التّأثّرِ كثيرٌ من الباحثين و المثقّفينَ، و لم تترك موضعًا إلاّ غزته و استولت عليه.
و الملاحظُ في الشّواهدِ أيضًا –و أخصُّ منها بالذِّكرِ الشّواهدَ الشّعرِيّةَ– أنّها لا تُنسَبُ إلى مصادرِها، و لا يبيَّنُ وجهُ الاستشهادِ بها، و لا تُعزى في بعضِ الأحيانِ إلى قائليها، و قد يذكُرُ الباحثُ أنّه لم يعثرْ على قائلِ البيتِ الشّعريِّ، بينما هو مذكورٌ في كتُبِ التّراجمِ و كتبِ الشّواهدِ و اللّغةِ و الأدبِ و شروحِ الشّعرِ… فتظلّ هذه الشّواهدُ مجهولةً يصعبُ الوقوفُ على ما يُرادُ منها، و قد يُصاحبُ نقْلَها التَّصحيفُ و الاضطرابُ و الخطأُ و كلُّ ما يسيءُ إلى قراءتِها و فهمِها، فلا تكادُ تؤدّي ما سيقت له من مهامّ.
أ. د. عبد الرحمن بودرع
——————–
1 – المَهاراتُ اللّغويّةُ و عُروبةُ اللّسانِ : 131. الدّكتور فخر الدّين قباوة.
2 – انظر في تفصيلِ هذه الأضرارِ : [اللّغة و المجتمع: 172] د. علي عبد الواحد وافي، دار إحياء الكتب العربية، ط. عيسى البابي الحلبي و شركاه ط.2 / 1370-1951.