يقول غوستاف لوبون:
“ولم يبق َّ للعرب في أواخر القرن الثالث عشر سوى مملكة غرناطة، ولما تزوج ملك أرغونة فرديناند الكاثوليكي ملكة قتشالة إيزابلا – وتمت بذلك وحدة تينك الدولتين- حاصر في سنة 1492 غرناطة، التي كانت آخر معقل للإسلام في إسپانية، وفَتحها ثم ضم إليه مملكة نبرَّة، فأصبحت جميع إسپانية، خلا البرتغال، تابعةً لعرش واحد.
ودامت دولة العرب في إسپانية نحو ثمانية قرون، أي ما يقرب من مدة سلطان الروم، وأدى انقسامها إلى زوالها أكثر مما أدت إليه الغارات الأجنبية، فالعرب، وإن كانت عبقريتهم الثقافية من الطراز الأول، لم يَبْد نبوغهم السياسي غير ضعيف.
وعاهد فرديناندُ العربَ على منحهم حرية الدين واللغة، ولكن سنة 1499م لم تكد تحل حتى حل بالعرب دور الاضطهاد والتعذيب الذي دام قروناً، والذي لم ينته إلا بطرد العرب من إسپانية، وكان تعميد العرب كرها فاتحةَ ذلك الدور، ثم صارت محاكم ُ التفتيش تأمر بإحراق كثري من المعمَّدين على أنهم من النصارى، ولم تتم عملية التطهير بالنار إلا بالتدريج؛ لتعذر إحراق الملايين من العرب دفعة واحدة، ونصح كردينال طليطلة التقيُّ، الذي كان رئيسا ملحاكم التفتيش بقطع رءوس جميع من لم يتنصر من العرب رجالا ونساء وشيوخا وولدانا، ولم ير الراهب الدومينيكي – بلِيدا- الكفايةَ في ذلك فأشار بضرب رقاب من تَنصَّر من العرب ومن بَقِي على دينه منهم، وحجتُه في ذلك أن من المستحيل معرفة صدق إيمان من تنصر من العرب، فمن المستحب، إذن، قتل جميع العرب بحد السيف؛ لكي يحكم الرب بينهم في الحياة الأخرى، ويُدخِل النارَ من لم يكن َ صادق النصرانية منهم، ولم تر الحكومة الإسپانية أن تعمل بما أشار به هذا الدومينيكي الذي أيَّده الإكليروس في رأيه لما قد يُبديه الضحايا من مقاومة، وإنما أمرت في سنة 1610م، بإجلاء العرب عن إسپانية، فقُتل أكثر مهاجري العرب في الطريق، وأبدى ذلك َ الراهب البارع –بليدا- ارتياحه لقتل ثلاثة أرباع هؤلاء المهاجرين في أثناء هجرتهم، وهو الذي قَتَل مائة ألف مهاجر من قافلة واحدة كانت مؤلفة من 140000 مهاجر مسلم ِحينما كانت متجهةً إلى إفريقيا .
وخَسِرت إسپانية بذلك مليون مسلم من رعاياها في بضعة أشهر، ويُقَدر كثير من العلماء، ومنهم سيديو، عدد المسلمين الذين خسرتهم إسپانية، منذ أن فتح فرديناند غرناطة حتى إجلائهم الأخير بثلاثة ملايين، ولا تُعَد ملحمةُ سان بارتلمي إزاء تلك المذابح سوى حادث تافه لا يُؤبَه له، ولا يسعنا سوى الاعتراف بأننا لم نجد بين وحوش ُ الفاتحين من يؤاخذ على اقترافه مظالم قتل كتلك التي اقترِفت ضد المسلمين.
ومما يُرثى له أن حُرِمت إسپانية عمدا هؤلاء االملايين الثلاثة الذين كانت لهم إمامة السكان الثقافية والصناعية.
ثم رأت محاكم التفتيش أن تُبيد كل نصراني ترى فيه شيئًا من النباهة والفضل، فكان من نتائج هذه المظالم المزدوجة أن هبطت إسپانية إلى أسفل دركات الانحطاط ً بعد أن بلغت قمة المجد، وأن انهار معا كل ما كان فيها من الزراعة والصناعة والتجارة والعلوم والآداب والسكان.
من كتاب حضارة العرب: غوستاف لوبون: ترجمة عادل زعيتر، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2013، ص.284- 28