العمل الخيري مفتاح فلاح المجتمع، ومختبر امتحان معادن الناس، ففي ثناياه يقاس مستوى وعي الأفراد وأخلاقهم، كما أنه لا يشمل فئة دون أخرى، أو أناساً دون سواهم، أصحاء كانوا أو مرضى، أغنياء أو معوزين، فليس الغني دوما في غنى عن المساعدة، كما لا يعدم الفقير وسيلة في الانخراط في العمل الاجتماعي. ويحتاج العمل الاجتماعي إلى دعم مالي كما يحتاج إلى إرادة مفتوحة. إنه عمل إنساني كبير يفيض من القلوب الطاهرة المـُحبة للخير إلى قلوب في حاجة للمساعدة.. فهو يقضي على الفقر المادي والمعنوي بين الفئات الهشة، ويأتي على اللامبالاة بين أفراد المجتمع. فكل مجتمع مستقر اقتصادياً، مشمول بفضائل الأخلاق هو مجتمع يحمل في طياته مؤشرات التنمية والازدهار وتحقيق العدالة والمساواة، والمُضي قدما على أمل بلوغ أعلى مراتب الرقي وبناء الحضارة. فهو بذلك قادر على أن يحقق مبدأ “المدينة الفاضلة” إن لم نبالغ في الحكم فهو قادر للوصول إلى الكمال البشري. وليس المجتمع الياباني عنا بغريب؟ أنتج أمة محبة للعلم، ومتماسكة اجتماعيا، ومتشبعة بقيم الإتقان والإخلاص والالتزام. وهو ما حقق لليابان شروط التمكن والقوة، ولعل السر في معادلة الاستحقاق هو إرادة التنفيذ… وطبقاً لهذا المبدأ، يمثل التزام المجتمع بكفالة ضِعافه الأهمية الحاسمة في القضية. ولا يساورنا أدنى شك في أن النظام الإسلامي يمثل الرؤية الواضحة للمجتمع السوي القوي، العادل الفاضل.
إن وجود العمل الاجتماعي في المجتمع إنما هو نتيجة للتشبع بأصول الإيمان بالله تعالى واليوم والآخر، وما يقتضيه من روح التضامن والاستجابة لأوامر الله تعالى وأحكامه رعاية المحرومين والضعفاء: زكاة، كفارات، تبرعات، وصايا، أوقاف، ديات، ميراث… هذه التجربة الإنسانية والزخم التشريعي، توفر المنهاج الاجتماعي الصالح لخدمة الإنسانية.
كما أن للوقف والعمل الخيري عامة أثرا نفسيا طيبا على أفراد المجتمع رغم أنه مناقض لطبيعة المصالح المادية إلا أنه يحققها بشكل أو بآخر، وفي ذات الوقت فهو يؤثر في حياة الناس وتحسين أمزجتهم مثل ما يصحح لهم الظروف النفسية الملائمة.
نخلص إذن إلى أن: العمل الاجتماعي يعد آلية عملية لتجاوز المشاكل النفسية، ولا يختلف عن غيره من أنواع العلاجات النفسية والسلوكية. وقد أرجعت دراسات عديدة أسباب تحصيل مبدأ السعادة ورفع مستوى المناعة الجسدية وعلاج كثير من الاضطرابات النفسية إلى الإدماج الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية الجيدة إضافة إلى مبدأ العطاء وما يفرزه من نشوة أطلق عليها علميا ب”نشوة العطاء”. كل هذا يفصل الوظيفة العميقة في الحياة والتغييرات الهائلة في البنية المجتمعية. من هذا المنظور نرى أن العمل الاجتماعي عنصر مادي في شكله وروحي في تفصيلاته، فهو يحقق ثنائية فريدة تدل على ثنائية داخلية وخارجية، بمعنى أنها موجهة للفرد في شخصه وللغير في مجتمعه. اشتملت الطابع الشخصي والطابع الخارجي، بما يخدم الذات والآخر.
ومما ينبغي أن تدركه الإرادات أن الحياة لا تستقيم أساساً إلا بالتضافر والتكافل والتكامل، وأن كل فرد يعمل على العطاء قبل الأخذ، وتأدية الواجب قبل التفكير في الحق، وهذا من شأنه أن يسد فجوة الفاقة، ويغلق ثغرة الظلم، وهكذا تزدهر الحياة ويطيب العيش. ولا يعتقد الأفراد أن الخير الذي يقدمونه للغير هو فضل منهم، بل هو فضل على المعطي قبل أن يكون فضلاً على المعطى إليه. وحين نقوم بالعمل الاجتماعي فنحن لا نساعد الآخرين لكونهم محتاجين.. بل نحن أيضاً محتاجون، غير أن حاجتنا معنوية وليست مادية.
ولقد عملت الأمة في تاريخها بهذه الرؤية، فتحوّلت الحياة إلى حياة اطمئنان واستقرار حل معها الأمن والتعايش والتساكن بين أبناء الأمة ومكوناتها وفئاتها عكس جوا من الأخلاق الجماعية التي قوت لحمة الأمة من الأخوة والتكافل والتناصر والتعاون فأحدث ذلك نقلة نوعية شَهِد بها العدو قبل الصديق، فأنشأ مجتمعاً تجسدت فيه ملامح التكامل الاجتماعي في أبهى حللها؛ مجتمع يعطف فيه الغني على المحتاج، والقوي على الضعيف، والصحيح على السقيم، والعارف على الجاهل، وصاحب الفضل على من لا فضل له، حتى عم كل كائن حي..
غير أنه ولأسباب عديدة بدأن نلاحظ اتساع الهوة بين واقع المساعدات الاجتماعية الضخمة في بلاد الغرب مقارنة مع تلك المتوفرة في بلاد المسلمين، وكأن الآخر معني بأخلاق الإسلام أكثر من المسلمين أنفسهم.
ومنه، أصبح واقعنا ينبئ عن خطر شديد أوشك إن لم يكن هذا الخطر حاصل وبشدة. وهو ما نراه من فردانية غاية في النرجسية والأنانية، كل يعيش في فلك نفسه لا هم له إلا نفسه وأبناءه.. فنجد الغني بجوار جاره الفقير، ورغم علمه بحاجته الشديدة، إلا أنه يأبى أن يقدم له يد المساعدة. مردداً بسلوك حاله: “نفسي نفسي”. وقد شاع مثل هذا السلوك الشائن في جميع مجالات الحياة، حتى إن قلة من الموسرين هم من يحرصون على أداء زكاتهم للفقراء. أما الفئة العريضة فهي غير مبالية بأحوال الفقراء. وهذا هو الواقع، فقد باتت قيم كثيرة يفتقدها المجتمع الإسلامي رغم حرص الدين على زرعها في نفوس المسلمين. وقد رحم الله تعالى هذه الأمة بذوي النفوس الراقية التواقة للخير، وبفضلهم لا يعدم الخير في الأمة ولا نجزم بهلاك هذه الأمة، فمن قال بهلاك الناس فهو أهلكم.
لقد تبين فيما مضى حين ترسخت ثقافة العمل الخيري في نفوس الأفراد على بروز تلك العلاقة الوطيدة بين العمل الاجتماعي والازدهار الحضاري، كما تبين دور التطوع والعطاء في رفع مردودية الأفراد في المجتمع، وتحسين علاقاتهم الاجتماعية، ورأينا كيف يغير العطاء طباع الناس، ويصقل مواهبهم وكيف يصنع الإنسان السعيد الآمن المطمئن، وأن الفعل الخيري سلاح سحري له آثار إيجابية عديدة، سواء على الفاعلين والمتطوعين، أو على الحالات الاجتماعية من المستفيدين. وفي النهاية حين تجددت الآليات والأساليب جعلت الناس يبدعون في ابتكار بعض التجليات من مواقف العمل الاجتماعي التي تساعد على الاستقرار الاجتماعي والصحة النفسية للأفراد. وهنا تكمن قوة النظام الإسلامي. حيث يمكن الاستفادة من هذا النظام الفريد لأجل سعادة البشرية؛ ولهذا ظل البناء الاجتماعي للأمة الإسلامية لقرون طوال محافظاً على وحدته وتماسكه وصلابة كيانه، ورغم التقلبات السياسية، وتغيرات الأنظمة الحاكمة، والنكبات التي مرت بها.. بقيَ المجتمع محافظاً على إنسانيته وسمو ثقافته، فكانت نوعية النسيج الاجتماعي التي ربطت العلاقات بين المسلمين هي التي ضمنت للأمة مناعة وسعادة وازدهاراً.
هذه المنظومة العريقة الضاربة في جمالية تكافلها، ورونق شموليتها قد أصبحت إرثاً لكافة الأمم تنهل منه كافة الأنظمة العالمية، فكلما وجدت معيقاً اقتصادياً أو اجتماعياً سارعت للبحث في التشريع الإسلامي عن حلوله البديعة، وهذا بحد ذاته شهادة اعتراف منها على قوة النظام الاجتماعي للإسلام وعجز الأنظمة الرأسمالية والاشتراكية، وبما أن القوة كامنة في هذا النظام، هناك تخوف في مراكز القوة وأصحاب المصالح الكبرى، على أن يكون بديلاً للنظام العالمي.
إن الشعوب الإسلامية شعوب عريقة محسنة محبة للخير وكريمة بطبعها؛ لكن العمل الاجتماعي يحتاج إلى عمل دؤوب لتفجير هذه الخصال الكريمة، ومجهودات حثيثة على تشجيع الطاقات، ولا شيء بمقدوره تفجير طاقات الخير وسواعد العطاء في الأمة مثل ما يفعله سحر الإيمان، وهذا لن يتحقق إلا بمشاركة المجتمع المدني وفرق العمل الاجتماعي والخيري والإحساني، وإشراك المحسنين بتأطير من العلماء والمفكرين، من أجل توجيهه وترشيده وتنظيمه.
نتائج هذا المقال:
وفي الختام يمكن التأكيد على الأمور الآتية:
عمل الإسلام على تحقيق روح العمل الاجتماعي، وقد جهز لهذا الغرض مرجعية مليئة بالأحكام والمبادئ والقواعد والوسائل والمقاصد حيث وجه الأمة إلى غرسها بكل الطرق، سواء كان: جهداً بدنياً، تبرعاً مالياً، إعمالاً فكرياً، تطوعاً بالوقت.
التكافل الاجتماعي في الإسلام نظام وقائي وعلاجي في ذات الوقت؛ وقائي من حيث أنه يهيئ البناء الاجتماعي القادر على حماية ذاته من المعضلات المتوقعة، وهو علاجي لأنه يساعد في المعالجة الفورية والجماعية قضايا الفقر بجميع أنواعه المادي والعلمي والصحي والخُلُقي.
تجليات العمل الاجتماعي متنوعة ومتعددة، فلا تنضب مواقفها، ولا تنتهي صورها، ولا تحصى نماذجها.. فهي كثيرة بتعدد الظروف والمواقف والمعضلات، حتى لا تكاد تخلو لحظة من نفحة عطاء، أو لحظة إحساس مليئة بمشاعر التراحم والتضامن.
العمل الاجتماعي يحقق فوائد كثيرة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والمعيشي والنفسي، ويعطي حلولاً عملية لهذه المجالات، بحفظ سيرها وتوازنها الحيوي دونما اختلال أو قصور.
العمل الاجتماعي مبدأ أصيل في الأمة، قد ساعدها على حفظ بيضتها من المشاكل النفسية والاضطرابات الباطنية؛ بل أوجد مجتمعاً سليما مطمئنا مستقراً يسوده الخير والصلاح.
العطاء آلية فذة لعلاج كثير من الاختلالات المعاصرة، كما يرفع من جودة الحياة وإنتاجية الأفراد، فينعم كل من المتطوع والمستفيد براحة نفسية، بما يوفره من نشوة العطاء والسعادة لفائدة المتطوع، وإحساس المستفيد بالاطمئنان عبر منحه الدعم والرعاية والخدمة الاجتماعية، حيث يتم تمكين الطرفين بجو سائد يطبعه الاستقرار والتوازن والرخاء.
قيمة الإنسان ليس فيما يملك من أموال بل بما يعطي من عطاء وخدمة للغير، فتكون سعادته مرتبطة بسعادة غيره.
العمل التطوعي وسيلة لعلاج كثير من الاضطرابات النفسية كالاكتئاب وضعف الثقة، فهو أفضل من استعمال العلاج الطبي أحياناً، كما يساعد على علاج بعض الانحرافات السلوكية والنفسية من حقد وأنانية وحسد..
الإنسان الذي يجعل نفسه محور الحياة وجوهرها أكثر عرضة للمشاكل النفسية، وأما الذي يقضي حاجات الناس فهو أقل الناس عرضة لها.
محمد طاقي