من وجوه الإعجاز التشريعي في الإسلام توسيع دائرة الحلال إعمالا لمعنى التسخير الذي هو منة منه سبحانه على خلقه: وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه…. (الجاثية: 12). وفيما أحله الله تعالى للإنسان الكفاية التي لو تأملها العبد قليلا لعلم إلا حاجة له إلى الدخول فيما حرم عليه، لكن سنة الابتلاء جارية في الخلق وبها ينقسمون إلى مؤمن وكافر، وطائع وعاص، فيتجه الكثير منهم إلى تقحم الحرام وكأن الحلال قد ضاقت دائرته، وقليل من عبادي الشكور (سبأ: 13).
والإنسان بطبعه يريد اقتحام المجهولات والممنوعات، وقد روي عن ابن عباس : “لو قيل لابن آدم لا تفتَّ البَعر لفتَّه”، والبعر كما هو في المعاجم: رَجِيع ذوات الخُفّ وذوات الظِّلف إِلاَّ البقرَ الأهليّ، وبهذا الطبع الشخصي يدخل المرء دائرة الممنوعات متجاهلا أو ناسيا أن ما أحله له الله أوسع وأصلح وأطيب مما يريد اقتحامه.
كما يظن البعض -جهلا بطبيعة التشريع- أن الإسلام عبارة عن قائمة من المحرمات التي تضيق معها الحياة، وتنعدم معها المتع فيهرب من التشريع الواسع إلى دائرة ضيقة يحسبها واسعة، وكلا المسلكين السابقين خطأ.
خصائص ما أحله الله:
ما أحله الله تعالى من المأكولات والمشروبات والملبوسات وكل مشموم ومرئي ومسموع وغير ذلك يمتاز بجملة من الخصائص، كلها داعية إلى الإقبال عليه منفرة من أضداه، أذكر منها اثنتين:
أن الحلال طيب قطعا قال تعالى: ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث (الأعراف:157). قال ابن كثير: “قال بعض العلماء: فكل ما أحل اللّه تعالى من المآكل فهو طيب نافع في البدن والدين، وكل ما حرمه فهو خبيث ضار في البدن والدين”. وقال القرطبي: “مذهب مالك أن الطيبات هي المحللات؛ فكأنه وصفها بالطيب؛ إذ هي لفظة تتضمن مدحا وتشريفا. وبحسب هذا نقول في الخبائث: إنها المحرمات”.
أنه مصلحي شامل: ومعنى مصلحيته أنه ممنوح للإنسان ليحقق به مصلحته الدينية والدنيوية، وذلك في كافة تشريعاتها بما يحقق شمولا مصلحيا في حياة الخلق بحيث تكون التشريعات الإسلامية كافية لسد حاجت الناس وضبط حياتهم فلا يحتاجون مع تشريعاتها إلى تشريعات من خارج دينهم يَقُول الإِمَام ابْن الْقيم- رحمَه الله تَعَالَى: “في إعلام الموقعين: “فَإِن الشَّرِيعَة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح الْعباد، فِي المعاش والمعاد، وَهِي عدل كلهَا، وَرَحْمَة كلهَا، ومصالح كلهَا، وَحِكْمَة كلهَا”. والعاقل لا يخرج عما فيه صلاحه ومصلحته، ولن يكون إلا فيما أحله الله تعالى، وبه يكون الفرد والمجتمع في حالة رقي ديني ودنيوي لبناء حالة حضارية إسلامية تدعو الخلق إلى الدخول في رحمات الإسلام وأنواره.
وقفات مع البديل الإسلامي لما حرم في الإسلام.
ومن إعجاز التشريع الإسلامي في مسألة الحلال والحرام، أن البدائل الشرعية عن الحرمات ليست على النمط الغربي أو الشرقي الذي يخرج المكلف من دائرة الإنسانية إلى دائرة البهيمية، لأن النظرة الإسلامية للمباحات أنها وسائل لمقاصد، وليس معقولا لشريعة جاءت لتهذيب الإنسان وإخراجه من تحت سلطان الهوى أن تدخله في لجة الشهوات المفرطة بحجة أنها توفر له بديلا عن المحرمات.
فغير المسلمين غالبا ما ينظر إلى الحياة على أنها دار متاع ونعيم كما سبق ونبهنا على ذلك في مقالات سابقة، أما المسلم فنظرته أن الدنيا دار ابتلاء والجنة هي دار النعيم، وعلى هذا النسق جاءت فلسفة المباح عندنا، وهذا الابتلاء لا يمنعنا من التنعم والتمتع بزينة الحياة الدنيا التي سخرها الله لنا، فنستعين بها وسيلة إلى تحقيق الغاية الكبرى التي تختصر في (عبادة الله وعمارة الكون).
النمط الاستهلاكي ثقافة مرفوضة:
بناء على ما سبق فإننا نرى أن غلبة النمط الاستهلاكي والتوسع في المباحات على الصورة التي نراها اليوم والتي غزت بلادنا وثقافتنا أمرا غير مقبول شرعا، لمخالفته فلسفة التشريع في تحليل الحلال،فهذا النمط جعل من الحلال وسيلة لا غاية وكونه وسيلة يمنع توظيف المسلم حياته كلها لتحقيق أكبر قدر منه حتى إنه ليعمل ليل نهار ويضيع واجباته الكبرى في سبيل الحصول على مال ينفقه على متعة رخيصة لا لشيء إلا ليتناغم مع الحالة الاستهلاكية العامة التي غزتنا وأصبحنا نلهث في سوقها ومولاتها وملاهيها وشواطئها وأسفارها .
السلف وفقه المباحات:
لقد امتازت نظرة السلف إلى المباحات بالعدل والتوازن، فقد كانوا يأخذون من الدنيا قدر ما يبلغهم الآخرة، ويجعلون جزءا من هذه الدنيا مدخرا لهم في الآخرة وهذه بعض الأمثلة:
عن ابن عمر قال: “أصاب عمر أرضا بخيبر فأتى النبي يستأمره فيها. فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه، قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، قال: فتصدق بها عمر غير أنه لا يباع أصلها، ولا يورث، ولا يوهب، فتصدق بها على الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف ، لا جناح على من وليها أن يكمل منها بالمعروف، ويطعم صديقا، غير متمول مالا”.
وفي المسند: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا وكان أحب أمواله إليه بيرحاء – وكانت مستقبلة المسجد ، وكان النبي يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب – قال أنس: فلما نزلت: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قال أبو طلحة: يا رسول الله، إن الله يقول: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وإن أحب أموالي إلي بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله تعالى ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله [تعالى] فقال النبي : «بخ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح، وقد سمعت، وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين» . فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
د. أحمد زايد