إن حاجة الناس إلى الخطاب الموجه والمرشد حاجة فطرية، والحرص على أن يكون الخطاب الشرعي غاية ما يمكن أن يلبي هذه الفطرة ويشبعها ويحفظها، ويقوم ما قد يلحقها من تشوه ناتج عن تأثيرات اجتماعية أسرية وبيئية، محلية ووطنية وعالمية، هو مما ينبغي أن يعنى به الدعاة إلى الله خطباء ووعاظا، علماء وفقهاء، مربين وأساتذة، كل في ميدان عمله، وساحة توجيهه ودعوته، وإن من الأمور التي يلزم الانتباه والتنبه لها، مراعاة التوازن في هذا الخطاب، فلا يغلب جانبا ويغفل جانبا، ولا يهول أمرا ويهون آخر، وهذا من نافلة القول، ولولا الأمر الرباني بالتذكير ما كان لهذا الحديث من داع ولا تبرير.
الموازنة بين الدقة والرقة؛ وأعني بذلك دقة الخطاب الإسلامي الشرعي الدعوي ورقته، فيراعي في القضايا المطروقة موضوعا للوعظ والحديث، والخطبة والتحديث، تأصيل المسائل فيها، وإقامة الحجج والدلائل عليها، والاستدلال لها بما ثبت من نصوص الشرع القاطعة الفاصلة، فلا يبقى الوعظ والإرشاد مجرد دعوى ليس عليها من الله حجة ولا برهان، وربنا سبحانه يقول:﴿قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (النمل: 64) ويقول جل جلاله:﴿قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا (الأنعام: 148) فصار الاستشهاد والاستدلال رونق الخطاب وزينة المقال، لا غنى للداعية عنه، إذ لكلام المولى جل جلاله ولحديث المصطفى من وقع الأثر وعظيم الخطر ما يعلمه أهل اللسان ممن فقهوا لغة خطاب القرآن. فلو أنزل هذا القرآن على جبل لخشع، فكيف إذا خوطب به من لربه ركع وسجد وخضع. وإنما أوتينا من جهة تقصير المخاطَب – بكسر الطاء – عن بلوغ قلب المخاطِب – بفتح الطاء -، فإفلاسه من العلم الشرعي كارثة معرفية وعثرة علمية، تعوق بلوغ خطابه إلى أفئدة وأوعية مخاطبيه، وتسوق كلماته إلى التردي عن مستوى ما يعالجه من قضايا ومشكلات، ويطرحه من مسائل ومعضلات. فلا مفر والحياة حبلى بشبهات وإشكالات، وطعون واتهامات، من تسلح الداعية بسلاح العلم الأصيل لتحقيق الدعاوى ودحض الأباطيل ورد الأغلوطات مما قد يثار في ساحة الناس وواقع حياتهم. فالدقة العلمية ضرورة في العصر ملحة، تنم عن فقه زكي، وفهم ذكي، كفيل بإنارة الأفهام وإضاءة الأذهان بحقائق ما قد تعج به أدمغة الناس من صخب وسائل الإعلام ومقاطع الشبكات العنكبوتية بائعة الأوهام، والتي صارت للأسف الشديد المعلم والمرشد لمختلف الفئات العمرية والطبقات الثقافية والمعرفية.
وحتى لا يغوص الخطاب في دقائق الأصول، ومناهج الاستدلال والأصول، فيحيد عن مقصد التزكية ومعنى التحلية وغاية التربية، كان لا بد من أن يعدل الداعية كفة ميزان العلم بكفة ميزان التزكية؛ فيكسو خطابه بروح قرآنية ورقة إيمانية، يقرن فيها الأحكام بحِكَمها، والأوامر بغاياتها، والمسائل بعللها، ويستحضر المآل، ويعتبر بخاتمة الحال، فيرغب ويرهب، ويحبب ويرعب؛ بعبارات لم يخل منها كتاب الله، ولم تعر عنها أحاديث رسول الله ، عبارات تشق طريقها إلى المشاعر والأحاسيس فتبلغ المضغة التي بها صلاح الجوارح والأركان، واستقامة الأعضاء واللسان.
إن خطاب الدعاة والمربين أحوج ما يكون إلى المزاوجة بين التفهيم والتزكية، والجمع بين المعرفة والتربية، وأن يقرن بين الدقة العلمية والرقة الوعظية لتسكن العقول الحائرة المشتبهة، وتهدأ النفوس الراغبة المشتهية، وهذا مقصد البعثة، وغاية الرسالة والنبوة، قال ربنا في محكم كتابه: هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (الجمعة: 2).
ذ. معزوز عبد الحق