خرج اليهود من تجربة الحرب العالمية الثانية كأقوى ماتكون الجاليات داخل المجتمع الفرنسي، وكانت التجربة بمثابة إطلاق جديد للنفوذ اليهودي في نسيج هذا المجتمع؛ الأمر الذي وضح عبر الإعلام في أروقة الحياة السياسية والحزبية إلى جانب النشاط الاقتصادي والثقافي والتربوي. ولا يمكن تناول موقف فرنسا من فكرة إنشاء الدولة اليهودية دون تناول واقع اليهود في فرنسا وقدراتهم على التأثير في القرار الفرنسي على مختلف الأصعدة داخليا وخارجيا، حيث يعزى للكاتب الفرنسي فرديناند سلين عبارة عميقة الدلالة يقول فيها : “إن فرنسا أصبحت مستعمرة صهيونية، ولم يعد لنا مجال للتفكير في التخلص من سادتنا اليهود”.
الـتــاريــخ الـحــديث للـنـفــوذ اليهـودي فــي فــرنـســا
منذ القرن الثامن عشر وعلى أعتاب القرن التاسع عشر وبالتحديد في العشرين من نيسان/ أبريل 1799م؛ نشرت الصحيفة “الرسمية الفرنسية” نداء من نابليون يدعو فيه اليهود إلى الانضمام لجيشه المتوجه إلى مصر ليدخلوا معه القدس، ويعود تاريخ ظهور أول تشكيل يهودي في فرنسا إلى السادس من تموز/يوليو 1806م حين انعقد مؤتمر لليهود الفرنسيين بمشاركة 75 من زعمائهم من بينهم 45 من زعمائهم من بينهم 45 حاخاما، وتم آنئذ انتخاب أبراهام فرتارو رئيسا للجمعية اليهودية التي تأسست في أعقاب المؤتمر.
وفي عام 1808م أصدر نابليون مرسوما بتشكيل منظمة الجمعية المركزية الإسرائيلية، ثم تطورت إلى “اتحاد ثقافي” عام 1906، وكان من أبرز رؤساء الاتحاد الملياردير اليهودي البارون ألان دو روتشيلد الذي مات عام 1982.
أما أكثر التنظيمات فاعلية فهو “المجلس التمثيلي ليهود فرنسا” الذي أسسه عام 1944 اليهوديان جاك هيلبرونر وليون ماييس ويرأسه حاليا جان كان، وهناك أيضا منظمة الإحياء اليهودي التي تعتبر من أنشط جماعات الضغط اليهودي في فرنسا.
ويذكر أنه في عام 1981م وقت احتدام معركة الرئاسة في فرنسا : عقدت الجمعية العمومية للجمعيات اليهودية برئاسة دوروتشيلد اجتماعا أعلنت فيه شروطها مقابل تأييد المرشح المنتظر، وكان أول هذه الشروط إدخال مادة “تاريخ الشعب اليهودي” في برامج التعليم الفرنسية.
اليهود والسلطة الفرنسية
من الشخصيات اليهودية التي تبوأت مناصب سياسية رئيس الوزراء ليون بلوم عام 1936، ومنديس فرانس إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 الذي قامت به فرنسا بمشاركة (إسرائيل) وبريطانيا، وكان منديس متزوجا من ابنة المليوني اليهودي المصري سالامون شيكو ريل الذي تم تأميم ممتلكاته الضخمة في مصر، يضاف إلى ذلك عدد لا بأس به من الوزراء من أبرزهم جول موك الذي حصل على الجنسية الإسرائيلية، ووزير العدل كريميو عضو الحكومة المؤقتة التي تشكلت بعد فشل نابليون الثالث. وكان كريميو رئيسا للتجمع اليهودي العالمي آنذاك، وقام بإنشاء أول مدرسة زراعية يهودية فوق أرض فلسطين.
وتواصل تعاقب اليهود على منصب الوزارة حتى السبعينيات، حيث تولى المليونير برنار تأبى منصب وزارة المدن، وسيمون فيل وزارة الشؤون الاجتماعية. وتعد سيمون فيل ثاني أهم شخصية في حكومة إدوار بالاديور التي جاءت إلى السلطة في أعقاب فوز ائتلاف يمين الوسط بالأغلبية النيابية في انتخابات مارس 1993 التي أوصلت أيضا اليهودي التونسي الأصل فيليب سيجان إلى منصب رئيس “الجمعية الوطنية” (البرلمان). ويقال إن سيمون فيل التي تولت رئاسة البرلمان الأوربي في ستراسبورغ، جرت محاولات لإقناعها بقبول منصب رئاسة الدولة في (إسرائيل) خلفا لإسحاق نافون، لكنها اعتذرت عن التقدم في هذا الاتجاه.
ويعتبر الرئيس ميتران من المتحمسين ل(إسرائيل) على المستوى العاطفي والاستراتيجي، ويحكي اليهودي جاك أتالي المستشار المقرب من الرئيس الفرنسي في قصر الرئاسة عن الأخير وصفه أرض (إسرائيل) بأنها : “العقد القائم بين شعب وربه” في معرض حديثه عن الضفة الغربية وأنها تقع بالنسبة ل(إسرائيل) في هذا الإطار الديني، وكانت مناسبة هذا التعبير أن وزير الخارجية الفرنسي السابق كلود شيسون دعا في الثالث والعشرين من فبراير 1982 إلى قيام دولة فلسطينية، فرد عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن بقوله “لتهتم فرنسا بمشاكلها وبالحكم الذاتي في كورسيكا بدل الاهتمام بأراضي إسرائيل”، ووقف الرئيس الفرنسي إلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي معارضا لوزير خارجية بلاده قائلا : “بيغن على حق، لقد كان الأفضل أن يسكت شيسون”. وفي اليوم التالي كرر الرئيس موقفه في مجلس الوزراء مدافعا عن رئيس حكومة أجنبية واصفا الضفة الغربية من منطلق ديني، رغم أن الرئيس الفرنسي اشتراكي الهوية وهو أبعد ما يكون في أطروحاته عن الدين في دولة تعتبر الأكثر علمانية في أوربا، والأكثر من ذلك أنه اعتبر لليهود ربا يربط بهم عقدا، بينما بدا سكان الضفة من الفلسطينيين وكأنهم بلا رب.
وعلى المستوى الشخصي يعتبر الممثل الفرنسي اليهودي روجيه حنا من أقرب أصدقاء ميتران ويصاحبه كثيرا في عطلاته ونزهاته، وتجدر الإشارة بهذا الصدد إلى أن دانيال سيدة القصر “الإليزي” زوجة الرئيس فرانسوا ميتران، يهودية الديانة.
والملفت للأنظار أن النقاش مع المواطن الفرنسي البسيط دون وسيط إعلامي؛ يكشف نوعا من عدم الارتياح لليهود، فقد اكتشف اليهود أن الشعب الفرنسي يرفض أن يكون رئيسه يهوديا، وعارض منديس فرانس مؤسسات الجمهورية الخامسة التي أنشأها الرئيس شارل ديغول ورئيس وزرائه ميشيل دوبريه، وشرح بعض المحللين كيف أنه تحفظ على الأساليب المتبعة في العملية الانتخابية الرئاسية القائمة على الاقتراع العام أو التصويت العام.
ويعتبر أستاذ القانون الدستوري اليهودي الديانة “أوليفييه دوهامل” موقف منديس مدخلا مناسبا لشرح صراعاته السياسية وحياته الحافلة بالأحداث وسط مراكز صناعة القرار وخارجها، ولوحظ في تلك الفترة إثارة مسألة ديانته اليهودية في الأوساط الفرنسية وارتباط ذلك بمعارضة أسلوب التصويت العام والمباشر في الانتخابات الرئاسية، أي أن الأمر يكتسب واقعا سياسيا ودينيا في نفس الوقت، فقد ساد اعتقاد لدى منديس بأن الفرنسيين لا يمكن أن يقبلوا أبدا بوصول يهودي إلى قصر “الإليزي” رئيسا للجمهورية.
ورغم الموقف السلبي الفردي من اليهود فإن تحولا أظهرته إحدى استطلاعات الرأي التي تتكرر على فترات زمنية متفاوتة، وردا على سؤال “هل يعد اليهودي مواطنا مثل غيره من المواطنين الفرنسيين؟” أجاب 60% ب”نعم” في عام 1966، وفي عام 1977 بلغت نسبة الموافقين 65%، وارتفعت عام 1987 إلى 94% ويصف اليهودي روبير بادنتير الذي وصل إلى منصب رئيس المجلس الدستوري تلك النتائج بأنها تجعل من الزمن الحالي “زمنا سعيدا” لدى اليهود، ومن بين هؤلاء والده الذي هاجر من روسيا واستقر في باريس عام 1923. والمعروف أن رئيس المجلس الدستوري يعد صاحب المرتبة الخامسة في ترتيب قائمة أهم شخصيات الدولة الفرنسية التي يتصدرها رئيس الجمهورية ويأتي بعده رئيس مجلس الشيوخ.
ويقول دوروتشيلد : “لقد فعل ميتران كل ما يجب من أجل أن يكسب أصوات الأقلية اليهودية، وبذل جهودا تميزت بالذكاء وتستحق التقدير، ويعرف اليهود الفرنسيون دائما أن اليسار -الذي ينتمي له ميتران- يوفر لهم الحماية، حيث يوصف الرجل بأنه “صديق اليهود”.
ويعتبر جاك تالي أن وصول ميتران لرئاسة الجمهورية عام 1981 وضع حدا للقطيعة بين اليهود والسلطة السياسية بعد أن عادوا الرئيس السابق فاليري جيسكار ديستان، ويقول أتالي الذي ترك منصب رئيس “بنك الإعمار الأوربي” بعد اتهامات بسوء إدارته : “أصبحت تلك القطيعة مجرد حلم سيئ، فالرئيس ميتران يفهم اليهود واليهود يفهمون الرئيس، كما أنه يرسل الكلمات والإشارات المطمئنة من وقت لآخر. ويروي أتالي واقعة حدثت عندما ألقيت قنبلة على شارع “كوبرنيك” حيث يوجد أحد المعابد اليهودية في باريس : “وقتها كانت الطائرة تقل فرانسوا ميتران عائدا من جزيرة لارونيون.. مضت ساعتان على هبوطه واتصل بي هاتفيا وسألني : ماذا تفعل الآن قلت له إنني ذاهب إلى نفس الشارع، أجابني قائلا : لا تتحرك سأصل الآن لأذهب معك إلى هناك، أي إلى معبد الشارع كوبرنيك”، ويشدد أتالي على أن ميتران كان الوحيد بين الساسة الذي انفعل مع الحدث. وكان شقيق جاك أتالي إلى وقت قريب؛ رئيس شركة الطيران الفرنسي “إير فرانس” إحدى أضخم شركات الطيران في العالم، وترك منصبه في أعقاب اجتمعات عمالية صاخبة.