تُعنى هذه الزاوية بجمع ما تناثر من نصوص الإعجاز القرآني في غير مصادره المتخصصة، وما تناثر في هذه المصادر لكن لغير مؤلفيها، كما تُعنى بتصنيفها حسب تاريخ وفاة أصحابها، وذلك خدمة لمكتبة هذا العلم، وفتحا لآفاق جديدة للبحث فيه، ومحاولة لإقامة
(الموسوعة التاريخية لنصوص الإعجاز القرآني في التراث العربي).
(تتمة نصوص أبي علي الجبائي (ت303 هـ))
(2)
«فصل في بيان فساد طعنهم في القرآن من جهة التكرار والتطويل وما يتصل بذلك.
اعلم أن شيخنا أبا علي قد أشبع القول في ذلك في مقدمة التفسير، فذكر أن العادة من الفصحاء جارية بأنهم قد يكررون القصة الواحدة في مواطن متفرقة، بألفاظ مختلفة، لأغراض تتجدد في المواطن، وفي الأحوال؛ وذلك من دلالة المفاخر والفضائل، لا من دلالة المعايب في الكلام؛ وإنما يعاب التكرار في الموطن الواحد، على بعض الوجوه.
قال: وإنما أنزل الله تعالى القرآن على رسوله، ، في ثلاث وعشرين سنة، حالا بعد حال، وكان المتعالم من حاله، ، أنه يضيق صدره لأمور عارضة، من الكفار والمعارضين، ومَن يقصده بالأذى والمكروه، فكان جل وعز يُسليه، لما ينزل عليه من أقاصيص من تقدم من الأنبياء عليهم السلام، ويعيد ذكره بحسب ما يعلمه من الصلاح؛ ولهذا قال تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ… فُؤَادَكَ(هود: 120)، فبين أن هذا هو الغرض، وإذا كان ضيق الصدر يتجدد، والحاجة إلى تثبيت الفؤاد حالا بعد حال تقوى، فلا بد عند تثبيت فؤاده، وتصبيره على الأمور النازلة، أن يعيد عليه ما لحق المتقدمين من الأنبياء، من أعدائهم، ويعيد ذلك ويكرره، فيجتمع فيه الغرض الذي ذكرناه، وأن يعرف أهل الفصاحة، عند تأمل هذه القصص، وقد أعيدت حالا بعد حال، ما يختص به القرآن من رتبة الفصاحة؛ لأن ظهور الفصاحة ومزيتها في القصة الواحدة، إذا أعيدت أبلغ منها في القصص المتغايرة، فهذا هو الفائدة فيما تكرر في كتاب الله تعالى من قصة موسى وفرعون، وسائر الأنبياء المتقدمين؛ وإن كان لابد من زيادة فوائد في ذلك تخرجه من أن يكون تكرارا لجملته؛ وهذا بمنزلة الواعظ والخطيب، الذي إذا ذكر قصة وعظ بها، وذلك من قصص الصالحين وأخبارهم، لم يمتنع بعد مدة، أن يعلم الصلاح في إيراده، فلا يكون ذلك معيبا؛ بل ربما لا يعاب ذلك في المجلس الواحد، إذا اختلف الغرض فيه».
[المغني في أبواب العدل والتوحيد، 16/397-398]
(3)
«اجتمع ابن الراوندي وأبو علي الجبائي على جسر بغداد، فقال له: يا أبا علي! أما تسمع مني معارضتي للقرآن وتقضي له؟فقال له أبو علي: أنا أعرَف بمجاري علومك وعلوم أهل دهرك، ولكن أحاكمك إلى نفسك. فهل تجد في معارضتك له عذوبةً وهشاشة، وتشاكلاً وتلازماً، ونظماً كنظمه، وحلاوة كحلاوته؟ قال: لا، والله. قال: قد كفيتني. فانصرف حيث شئت».
[الوافي بالوفيات، 8/154] و[معاهد التنصيص، 1/157]
أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310هـ)
(1)
«القولُ في البيانِ عن اتفاق معاني آي القرآن ومعاني منطِق مَنْ نزل بلسانه القرآن من وَجْه البيان، والدّلالة على أن ذلك من الله هو الحكمة البالغة، مع الإبانةِ عن فضْل المعنَى الذي به بَايَن القرآنُ سائرَ الكلام.
قال أبو جعفر: إن من أعظم نِعم الله على عباده، وجسيم مِنَّته على خلقه، ما منحهم من فَضْل البيان، الذي به عن ضمائر صُدورهم يُبينون، وبه على عزائم نفوسهم يَدُلّون، فذَلَّل به منهم الألسن، وسهَّل به عليهم المستصعب. فبهِ إياه يُوَحِّدون، وإيَّاه به يسَبِّحون ويقدِّسون، وإلى حاجاتهم به يتوصّلون، وبه بينهم يتَحاورُون، فيتعارفون ويتعاملون.
ثم جعلهم، جلّ ذكره –فيما منحهم من ذلك- طبقاتٍ، ورفع بعضهم فوق بعض درجاتٍ، فبَيْنَ خطيب مسْهِب، وذَلِقِ اللسان مُهْذِب، ومفْحَمٍ عن نفسه لا يُبين، وَعىٍّ عن ضمير قلبه لا يعبر. وجعل أعلاهم فيه رُتبة، وأرفعهم فيه درجةً، أبلغَهم فيما أرادَ به بَلاغًا، وأبينَهم عن نفسه به بيانَا. ثم عرّفهم في تنزيله ومحكم آيِ كتابه فضلَ ما حباهم به من البيان، على من فضلهم به عليه من ذي البكم والمستعجم اللسان فقال تعالى ذكره: أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين (الزخرف: 18). فقد وضح إذا لذوي الأفهام، وتبين لأولي الألباب، أن فضل أهل البيان على أهل البكم والمستعجم اللسان، بفضل اقتدار هذا من نفسه على إبانة ما أراد إبانته عن نفسه ببيانه، واستعجام لسان هذا عما حاول إبانته بلسانه.
فإذا كان ذلك كذلك -وكان المعنى الذي به باين الفاضل المفضول في ذلك، فصار به فاضلا والآخر مفضولا، هو ما وصفنا من فضل إبانة ذي البيان، عما قصر عنه المستعجم اللسان، وكان ذلك مختلف الأقدار، متفاوت الغايات والنهايات- فلا شك أن أعلى منازل البيان درجة، وأسنى مراتبه مرتبة، أبلغه في حاجة المبين عن نفسه، وأبينه عن مراد قائله، وأقربه من فهم سامعه. فإن تجاوز ذلك المقدار، وارتفع عن وسع الأنام، وعجز عن أن يأتي بمثله جميع العباد، كان حجة وعلما لرسل الواحد القهار -كما كان حجة وعلما لها إحياء الموتى وإبراء الأبرص وذوي العمى، بارتفاع ذلك عن مقادير أعلى منازل طب المتطببين وأرفع مراتب علاج المعالجين، إلى ما يعجز عنه جميع العالمين. وكالذي كان لها حجة وعلما قطع مسافة شهرين في الليلة الواحدة، بارتفاع ذلك عن وسع الأنام، وتعذر مثله على جميع العباد، وإن كانوا على قطع القليل من المسافة قادرين، ولليسير منه فاعلين.
فإذا كان ما وصفنا من ذلك كالذي وصفنا، فبين أن لا بيان أبين، ولا حكمة أبلغ، ولا منطق أعلى، ولا كلام أشرف -من بيان ومنطق تحدى به امرؤ قوما في زمان هم فيه رؤساء صناعة الخطب والبلاغة وقيل الشعر والفصاحة، والسجع والكهانة، على كل خطيب منهم وبليغ، وشاعر منهم وفصيح، وكل ذي سجع وكهانة- فسفه أحلامهم، وقصر بعقولهم وتبرأ من دينهم، ودعا جميعهم إلى اتباعه والقبول منه والتصديق به، والإقرار بأنه رسول إليهم من ربهم. وأخبرهم أن دلالته على صدق مقالته، وحجته على حقيقة نبوته ما أتاهم به من البيان، والحكمة والفرقان، بلسان مثل ألسنتهم، ومنطق موافقة معانيه معاني منطقهم. ثم أنبأ جميعهم أنهم عن أن يأتوا بمثل بعضه عجزة، ومن القدرة عليه نقصة. فأقر جميعهم بالعجز، وأذعنوا له بالتصديق، وشهدوا على أنفسهم بالنقص. إلا من تجاهل منهم وتعامى، واستكبر وتعاشى، فحاول تكلف ما قد علم أنه عنه عاجز، ورام ما قد تيقن أنه عليه غير قادر. فأبدى من ضعف عقله ما كان مستترا، ومن عي لسانه ما كان مصونا، فأتى بما لا يعجز عنه الضعيف الأخرق، والجاهل الأحمق، فقال: “والطاحنات طحنا، والعاجنات عجنا، فالخابزات خبزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما”! ونحو ذلك من الحماقات المشبهة دعواه الكاذبة.
فإذ كان تفاضل مراتب البيان، وتباين منازل درجات الكلام، بما وصفنا قبل -وكان الله تعالى ذكره وتقدست أسماؤه، أحكم الحكماء، وأحلم الحلماء، كان معلوما أن أبين البيان بيانه، وأفضل الكلام كلامه، وأن قدر فضل بيانه، جل ذكره، على بيان جميع خلقه، كفضله على جميع عباده. ».
[تفسير الطبري، تح د.التركي، 1/8-9]
د. الحسين زروق