عن أبي هريرة عن النبي قال: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالا، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالا، يهوي بها في جهنم»(1).
تقديم:
إن الإسلام بعقيدته وشريعته وأصله وفرعه، أعطى للكلمة مكانة رفيعة ومنزلة شريفة، بحيث إن الكلمة أصل أصيل، ينتج عنها كل خير، كما ينبع عنها كل شر، فالكلمة يمكن أن تجعل الإنسان قريبا من ربه، يتفيأ ظلال رضوانه، على عكس من أطلق العنان للسانه، فيندم يوم لا ينفع الندم. كما أن الكلمة قد تصلح ذات البين، وتجمع الشمل وتلُمَّ الشعث، فكم من كلمة جمعت ما تفرق ورَتَقَت ما تَفَتَّق، فآلت بالنفع على الفرد والمجتمع، وكم من كلمة فرقت الشمل ونتج عنها صراع ونزاع فكانت سببا في تدمير مجتمع وضياع أسر، وهذا ما حذرت منه الشريعة الغراء، باعتبارها جاءت لجلب المصالح ودفع المفاسد.
فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت…» (صحيح البخاري).
في هذا الهدي النبوي إشارة إلى أن الذي يؤمن بالله واليوم الآخر -وهما من أركان الإيمان- فإما أن يقول خيرا فيَغْنَم، أو يلزم الصمت فَيَسْلَم، بل إن الصمت أول باب من أبواب العلم، ومما يروى عن سفيان الثوري أنه قال: كان يقال: “أول باب العلم الصمت، والثاني الاستماع له وحفظه، والثالث العمل به، والرابع نشره وتعليمه”(2). ورحم الله الإمام الشافعي حين قال:
وجدت سكــــوتي متجرا فلزمــتـه
إذا لم أجد ربحا فلست بخــــاسر
وما الصمت إلا في الرجال متــــــاجـر
وتاجره يعلو فوق كل تـــاجــر
إذا فالسكوت تجارة رابحة وصاحبه لا يندم حتى وإن لم يجد ربحا، بل أكثر من ذلك أن تاجره يحصل على مكانة مرموقة، فلا ينعته أحد، ولا يلومه أحد، فهو الرابح في الحالتين معا.
فالمرء دائما يجعل نصب عينيه قوله تعالى: مايلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد(ق: 18)؛ أي ما تكلم ابن آدم بقول إلا لديه رقيب عتيد، يعني حاضر وثابت ولازم، فكل لفظة محفوظة، وكل كلمة محسوبة. فرحم الله من حاسب ألفاظه، ووزن كلامه، فكان نطقه ذكرا، وصمته فكرا.
عن المغيرة بن شعبة قال: سمعت النبي يقول: «إن الله كره لكم ثلاثا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال» (البخاري).
فكثرة قيل وقال، منبوذة ومذمومة، لما قد ينتج عن كثرة الكلام من لغو وشطط؛ لأن من كثُر كلامه كثُر سقَطُه، فالإسلام شعاره العمل وليس كثرة الكلام الذي لا جدوى من ورائه، قال بعض الحكماء: “إنما خلق للإنسان لسان واحد وعينان وأذنان، ليسمعَ ويُبصِر أكثر مما يقول، ثم إنه حبس (اللسان) بأربعة أبواب، الأسنان والشفتان” وما يحصل الحكماء على الحكمة إلا بالتفكر والصمت.
ومما ورد في السنة المطهرة أن من صان لسانه عن أعراض الناس سيَلجُ الجنة التي هي مبتغى كل مسلم، باعتبارها سلعة غالية فيحتاج المسلم إلى التلفظ بالحكمة والنطق بالصواب، بعيدا عن تتبع عورات الناس، حتى يحظى برضا الله، ويبتعد عن سخطه، فعن عطاء بن يسار أن رسول الله قال: «من وقاه الله شر اثنين، ولج الجنة، مابين لَحييه وما بين رجليه…» (موطأ مالك).
فالكلمة لها تأثيرها الإيجابي والسلبي، لكن شرعنا الحنيف دعانا إلى استخدامها واستعمالها إيجابا لا سلبا، وقد أشار القرآن الكريم إلى تشبيه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، وأنها ذات أساس، ضاربة بعروقها في الأرض وفرعها في السماء، والكلمة الطيبة ما أعرب عن حق أو دعا إلى صلاح، فهي تلج القلوب وتجعلها لينة طائعة، بخلاف الكلمة الخبيثة فهي كالشجرة الخبيثة لا أساس لها ولا قرار، كما أن للكلمة الطيبة معنى آخر حيث فُسِّرت بكلمة التوحيد ودعوة الإسلام، والكلمة الخبيثة فُسِّرت بالشرك بالله تعالى والدعاء إلى الكفر وتكذيب الحق، فالبون شاسع بين الكلمتين، فهيهات هيهات بين من يجمع القلوب، وبين من يجعلها متنافرة.
قال تعالى: ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة اَصلها ثابت وفرعها في السماء توتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الامثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض مالها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله مايشاء(إبراهيم: 26-27).
فعلى المرء التلفظ بالكلمة الطيبة، واجتناب الكلمة الخبيثة لسوء عاقبتها وقبح مصيرها، ولنتأمل الحديث النبوي الشريف الآتي المروي عن معاذ بن جبل تأملا دقيقا فندرك مصير خطورة اللسان.
عن معاذ بن جبل قال: كنت مع النبي في سفر فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير، فقلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، قال: «لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير، الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل قال: ثم تلا تتجافى جنوبهم عن المضاجع حتى بلغ يعملون ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر كله، وعموده، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا نبي الله، قال: كف عنك هذا –وأشار بيده إلى لسانه- فقلت: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم»(8).
ومما يجدر التنبيه إليه، أن أمر اللسان صعب، لذا ينبغي أن يشتغل الإنسان بنفسه بدل عيوب غيره، ولما لكثرة الكلام من مفاسد لا تحصى، حتى قال أحدهم: “ليتني كنت أخرس إلا عن ذكر الله” وفي الحديث تشبيه كلام الإنسان بالزرع المحصود بالمنجل، فكما أن المنجَلَ يقطع ولا يميز بين الرطب واليابس ولا بين الجيد والرديء، فكذلك بعض الناس يتكلم بكل نوع من الكلام حسنا كان أم قبيحا. ولذلك أشار النبي إلى لسانه، وطلب من معاذ بن جبل أن يكف لسانه عما نهى الشرع الخوض فيه، وصدق الإمام الشافعي حين قال:
احذر لسانــك أيــها الإنســان
لا يلـدغــنك إنه ثــعــبـــان
كم في المقابر من قـتيل لسـانه
كانت تهاب لقاءه الشجعـــان
وقال أيضا:
لسانك لا تذكر به عورة امرئ
فكلك عورات وللناس ألــســن
وعيناك إن أبدت إليك معايبـــا
فدعها وقل يا عين للنـــاس أعين
نعم، إن نعم الله كثيرة، ومن هذه النعم، نعمة اللسان، فاللسان عضو خلقه الله تعالى لنعبر به عما في أنفسنا، ونذكر به الله، ونقرأ به كتاب الله، بل معيار صلاح القلب، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه»(مسند أحمد).
فاستقامة القلب واللسان دليل نجاح الإنسان في الدنيا ويوم الدين، قال تعالى: ألا بذكر الله تطمئن القلوب(الرعد: 29).
بل الأدهى والأمر أن ألسنتنا هذه ستكون شاهدة علينا، قال تعالى: يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون(النور: 24). فشأن اللسان عظيم، وخطره جسيم، فهو سلاح ذو حدين، فمن اتقى شر لسانه ولج الجنة، فالمؤمنون الأبرار هم من حفظوا ألسنتهم لأنهم علموا أنهم ملاقوا الواحد القهار. فعن أبي موسى الأشعري قال: قالوا يا رسول الله، أي الإسلام أفضل؟ قال: «من سلم المسلمون من لسانه ويده» (البخاري) فأفضلية المسلم تتمثل في السلامة من إذاية الناس باللسان واليد. وقد قيل:
جراحات السنان لها التئام
ولا يلتام ما جرح اللســان
وبهذا نخلص إلى أن اللسان نعمة من نعم الله على الإنسان، فينبغي للمؤمن أن يحاسب ألفاظه، ويزن كلامه، بل من صان لسانه ولج الجنة، فاللهم إنا نسألك ألسنة صادقة، وقلوبا سليمة، وأخلاقا مستقيمة، آمين آمين، والحمد لله رب العالمين، وهو الهادي إلى الصراط المستقيم.
ذ. علي السباع
————————-
1 – صحيح البخاري: باب حفظ اللسان، ج 8 ص 101.
2 – حلية الأولياء وطبقة الأصفياء، للأصبهاني، ج 6 ص 362.