الأسلوب في اللغة: قال ابن منظور: (يُقَالُ للسَّطْر مِنَ النَّخِيلِ: أُسْلوبٌ. وكلُّ طريقٍ ممتدٍّ، فَهُوَ أُسلوبٌ.[..] والأُسْلوبُ الطَّرِيقُ، والوجهُ، والمَذْهَبُ)(1)، (وسلكت أسلوب فلان: طريقته. وكلامُه على أساليب حسنة)(2).
وفي الاصطلاح: (أسلوب القرآن الكريم هو طريقته التي انفرد بها في تأليف كلامه واختيار ألفاظه)(3).
ولا نروم في هذا المقال الحديث عن أسلوب القرآن من جهة ما اتصف به من جمال التعبير وبديع التصوير وبراعة الألفاظ وجودة النظم وحسن الرصف وعجيب السبك وجزالة المعاني والجمع بين الإقناع والإمتاع وما إلى ذلك..، ولكن قصدنا الإشارة إلى بعض الأدوات التي استعملها القرآن الكريم في خطاب الناس لحثهم على العمل، أي ما اختاره جل حلاله للتأثير في النفوس السوية وفي النفوس المتمردة أيضا لحملها على الطاعة والامتثال و(لا يخفى ما للأسلوب من أثر على السامع، فإنه قد يكون الأسلوب سببا في فعل الإنسان أمرا، أو سببا في ابتعاده عن آخر، ولذلك فقد تنوعت أساليب القرآن في ذلك تبعا للموضوع الذي تتحدث عنه، فتجد أساليب الطلب وأساليب الترغيب، ومثلها في الترهيب إلى غير ذلك من الأساليب)(4).
ومما تجدر الإشارة إليه أن (العمل) اقترن بالصلاح في أكثر من ثمانين (80) موضعا؛ بحيث إن (عمَل الصالحات) أو (عمَل الصالح) ضميمة هي أكثر ضمائم المصطلح ورودا في كتاب الله تعالى، ومن خلالها يظهر امتداده وارتباطه بالحياة الآخرة في أكثر موارده؛ ولا أدل على ذلك من اقترانه بالإيمان، أو –بالأحرى- اشتراط تلازمهما، ثم ما يرتب على ذلك من آثار وأجزية مرتبطة باليوم الآخر؛ كما في قوله تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا نُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَنُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا(التغابن: 9)، وقوله جل شأنه: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا(طه: 75-76). مما يدل على أن (العمل الصالح) هو جوهر هذا الدين، وهو وصية الله للنبيئين والمرسلين والصالحين من المؤمنين؛ عقيدة وشريعة وسلوكا؛ ليهنأ عيشهم في المآل، وتطيب حياتهم في الحال، كما في قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(النحل: 79)، وأساليب الحث على العمل أساليب شتى؛ تبعا لحضوره القوي في القرآن الكريم؛ ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
أ- الأمر: لأسلوب الأمر صورتان صريحتان وهما: افْعَلْ وَلْتَفْعَلْ، فإذا صدر الأمر من جهة عليا فإنه يكون على جهة الوجوب، ولا يراد به إلا الطاعة والامتثال، فكيف إذا كان الآمر هو العلي الكبير؟.
وقد أمر الله تعالى بالعمل الصالح في مواضع عدة من كتابه الكريم؛ منها قوله تعالى مخاطبا رسله الكرام: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (المؤمنون: 51). ولا يخفى أن المخاطبين في هذه الآية -أخذا بالظاهر منها- هم المصطفون الأخيار، المسددون بوحي الله، والمعصومون بعصمة الله، وقوع غير الصالح منهم بعيد، وحرصهم على الامتثال شديد، لكن مع ذلك يخاطبون ببيان نوع العمل الذي يجب أن يأتوه، وهو أن يكون (صَالِحاً)، ثم يذيل الآية بهذا الإعلام المشعر برقابته سبحانه لهم؛ والمحذر من غفل عنها منهم.
قال الطبري: (وقوله: إنّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ يقول: إني بأعمالكم ذو علم، لا يخفى عليّ منها شيء، وأنا مجازيكم بجميعها، وموفّيكم أجوركم وثوابكم عليها، فخذوا في صالحات الأعمال واجتهدوا)(5).
فإذا كان صفوة الصفوة من البشر يخاطبون بهذا التوجيه فماذا بقي لعامة الناس؟ وماذا نستفيد من ذلك غير أهمية العمل الصالح ومركزيته في هذا الدين، وأن به يتفاوت الناس ويرفع بعضهم فوق بعض درجات، وأنه المنجى والملجأ لكل العباد.
وغير هذه الآية التي مثلنا بها كثير؛كقوله تعالى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُون(الصافات: 60-61)، وقوله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(التوبة: 105).
ب- الشرط: تكثر جمل الشرط المتضمنة لمعنى الأمر بالعمل الصالح أو التحفيز عليه، وفائدة هذا الأسلوب هو الربط بين أمرين يتوقف ثانيهما على الأول. فالأول -في موضوعنا- هو العمل، والثاني هو الجزاء. فنوال الثواب والجزاء متوقف على فعل المأمور به من العمل الصالح بكيفية لا تحتمل الشك، خاصة وأن المخاطِب والقائل هو الله جل جلاله؛ (ومن أصدق من الله قيلا؟)، والمخاطَبون هم المؤمنون المصدقون الواثقون في موعود الله، الراغبون في رضاه ورضوانه.
والفائدة الأخرى أنه يحمل شحنات تحفيزية كبيرة على إتيان العمل الصالح والاستكثار منه. فعندما يعلم الإنسان أنه بمجرد القيام بالعمل سيضمن الثواب والجزاء المترتب على ذلك العمل؛ -اعتمادا على أسلوب النظم ومعهود الخطاب من مثل قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ(الزلزلة: 8)- لا شك أنه سيجتهد في تحقيق أعلى قدر من العمل، وعندما ينضاف إلى ذلك حينما يعلم أن الآمر هو الله تعالى سيجتهد في تجويده والإخلاص فيه، فيجمع بين عمل الظاهر والباطن؛ (العمل والإيمان)، الذي تؤكد عليه جل الآيات القرآنية الكريمة مثل قوله تعالى: وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (طه: 75). وقوله تعالى: وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (طه: 112) وقوله تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ (الأنبياء: 94)، فهذه آيات كلها جمعت بين الإيمان والعمل، وكلها شرطية؛ جواب الشرط فيها متوقف على الشرط؛ أي فعل الشرط، وتركيبها اللفظي مستلزم دلالتها المعنوية التي يفهمها المخاطبون.
ت_ الخبر: إذا كان النحاة عرّفوا الجملة الخبرية بأنها الجملة التي تحمل خبرا يحتمل الصدق والكذب، فإن ذلك لا يجوز بل يحرم بالنسبة لكلام الله تعالى الصادق المصدق لما بين يديه، والمراد: ما ورد من أوامره سبحانه ونواهيه ومواعظه وزواجره… في صورة جمل خبرية.
وقد وردت عدة آيات في كتاب الله تعالى متضمنة الحديث عن العمل الصالح على هذا النحو؛ منها ما هو مؤكد بمؤكد كقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ َ(البقرة: 277)، ومنها ما ورد غير مؤكد كقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (الرعد: 29)، وجميعها تقريبا مقترنة بالإيمان -كما سبقت الإشارة إلى ذلك- وجميعها تختم بالجزاء العظيم الذي أعده الله تعالى لعاملي الصالحات في الدنيا والآخرة؛ مما يعتبر محفزا من المحفزات الإلهية على العمل الصالح ومرغبا فيه، ومنهضا للهمم للاقتداء بالذين آمنوا وعملوا الصالحات، ومشوقا لنوال ما نالوه.. فتكون الجملة الخبرية لها هذا الأثر الكبير والمدلول الهام.
ث- الاستفهام: ومعناه طلب الفهم وهو في كتاب الله تعالى يرد على غير حقيقته بل يكون تقريريا أو إنكاريا كما في قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا(فصلت: 33). (ومعناه النفي وتقديره؛ وليس أحد أحسن قولا ممن دعا إلى طاعة الله وأضاف إلى ذلك أن يعمل الأعمال الصالحات، ويقول مع ذلك إنني من المسلمين الذين استسلموا لأمر الله وانقادوا إلى طاعته)(6)، وهو كذلك استفهام إنكاري في قوله تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (ص: 28) قال ابن جزي: (“أم” هنا استفهامية يراد بها الإنكار أي: أن الله لا يجعل المؤمنين والمتقين كالمفسدين والفجار، بل يجازي كل واحد بعمله لتظهر حكمة الله في الجزاء، ففي ذلك استدلال على الحشر والجزاء، وفيه أيضا وعد ووعيد)(7). وقريب منها: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُم (الجاثية: 21).
والحمد لله رب العالمين
د. خالد العمراني
——————–
1 – لسان العرب/ سلب.
2 – أساس البلاغة لأبي القاسم محمود، الزمخشري
3 – مناهل العرفان في علوم القرآن، لمحمد عبد العظيم الزُّرْقاني،ج 2ص 303،
4 – الإتباع أنواعه وآثاره في بيان القرآن، ج 1ص 192.
5 – جامع البيان للطبري
6 – التبيان في تفسير القرآن للطوسي.
7 – التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي.