عرفنا مما سبق أن لفظي التزكية والزكاة يدوران على أصلين لغويين هما الطهارة والنماء، قال ابن فارس: “الزَّاءُ وَالْكَافُ وَالْحَرْفُ الْمُعْتَلُّ أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَى نَمَاءٍ وَزِيَادَةٍ”. ثم قال بعد ذكر جملة استعمالات للفظ: “وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ رَاجِعٌ إِلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَهُمَا النَّمَاءُ وَالطَّهَارَةُ”.
ومن معاني هذه المادة اللغوية كما جاء في لسان العرب: “الطهارة والنَّماء والبَركةُ والمـَدْح”.
إلا أن معظم هذه المعاني الزائدة عن الطهارة ترجع إلى النماء، كما يبينه كلام الزمخشري في أساس البلاغة، قال: “ومن المجاز: رجل زكي: زائد الخير والفضل من الزكاء والزكاة. (وحناناً من لدنا وزكاةً)، وقوم أزكياء، وقد زكوا. وزكى نفسه: مدحها ونسبها إلى الزكاء”.
فالتزكية التي بمعنى المدح ترجع أيضا إلى النماء، باعتبار أن من يزكي نفسه فهو ينسبها إلى الزكاء والنماء في الخير والفضل.
وأما في الاستعمال القرآني فنجد علاقة بين الزكاة والتزكية من وجه، وخلافا من وجه آخر، ذلك أننا يمكن أن نعرف التزكية بأنها أقصى ما يسعى المؤمن الذي يتعلم القرآن بالمنهج السليم في التلقي، أن يحققه من طهارة في نفسه.
فقولنا إنها أقصى ما يمكن أن يتحقق في النفس من طهارة، يدخل فيه التطهر من كل العقائد الفاسدة، ومن كل النوايا الخبيثة، ومن كل الأعمال الرذيلة، ثم تنمية النفس بالفضائل والخيرات بعد تطهيرها من الرذائل والآثام.
وقولنا إن ذلك رهين بتعلم القرآن وفق المنهج السليم في التلقي، يدخل فيه الاستعانة بالقرآن وسيلة، وبالسنة منهجا، كما سبق بيانه.
بينما الزكاة هي ما يتحقق فعلا في من زكى نفسه، فالتزكية هي باعتبار ما ينبغي أن يكون، بينما الزكاة هي باعتبار ما هو كائن، وكأن في تسمية الصدقة المعلومة بالزكاة إشارة إلى أن بذل المال هو أعلى درجات التزكية، وهو المعيار الذي تتوج به التزكية لتتحقق زكاة لدى المؤمن الذي يعطي ماله الخالص لغيره عن طيب خاطر رجاء في ما عند الله تعالى، وهذه الزكاة لم يوصف بها في القرآن إلا نبي أو طفل على الفطرة، الأول في قوله تعالى: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا(مريم: 12-13)، والثاني في مثل قوله تعالى: قالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا(الكهف: 74).
ويساعد على هذه التفرقة الوزن الصرفي للكلمتين، فالتزكية هي تفعلة، ولذلك هي سعي لتحقيق الزكاة، بينما الزكاة هي “من زكا يزكو، كنما ينمو وزنا ومعنى، فأصله: زكوة بوزن فعلة، قلبت الواو ألفا؛ لتحركها بعد فتح”.
فالزكاة اسم مرة من التزكية بمعنى أنها تحَقُّقٌ لما يسعى إليه المؤمن من فعل التزكية، والفرق بين الزكاة والتزكية كالفرق بين الطهارة والتطهير.
من هنا يمكن القول إن من اتبع المنهج النبوي في تزكية نفسه بوسائل التزكية من تلاوة للقرآن وتوحيد لله وعمل الصالحات، وتوَّج ذلك ببذل المال وبالإنفاق في سبيل الله تتحقق له الزكاة نتيجة سعيه إلى تزكية نفسه بما سبق.
ويدل على أن بذل المال هو أقوى وسائل التزكية قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَواتكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(التوبة: 103)، وقوله عز من قائل: وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى(الليل: 17-18).
وقد قال معظم المفسرين إن العلاقة بين المعنى اللغوي للزكاة المتمثل في الطهارة والنماء، والاصطلاح الذي انتقل إليه اللفظ، هو أن الزكاة، بما هي صدقة مفروضة، إنما هي طهارة للنفوس وللمال أيضا، قال البقاعي رحمه الله تعالى في تفسير الآية 77 من سورة النساء: “وأقيموا الصلاة أي صلة بالخالق واستنصاراً على المشاقق وآتوا الزكاة منماة للمال وطهرة للأخلاق وصلة للخلائق”.
وقال في تفسير آخر سورة الحج: “وآتوا الزكاة التي هي طهرة أبدانكم، وصلة ما بينكم وبين إخوانكم”.
ومما يدل على التداخل بين المعنيين، وعلى ورود الزكاة بمعنى طهارة النفس، وعدم اختصاصها في القرآن الكريم بالصدقة المفروضة، قول ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر: “وهي[ أي الزكاة] من الأسماء المُشْتركة بين المُخْرَج والفِعْل فُتطلَق على العَين وهي الطَّائفَة من المال المُزَكَّى بها وعلى المَعنى وهو التَّزكِية. ومن الجَهْل بهذا البيان أتِىَ مَن ظَلَم نفسَه بالطَّعن على قوله تعالى: [والذَّين هم للزَّكاة فاعِلُون] ذاهباً إلى العَين وإنما المُرادُ المَعْنى الذي هو التَّزْكية”.
وقال القاسمي في محاسن التأويل: “وكذلك الزكاة. هي اسم لما تزكو به النفس. وزكاة النفس زيادة خيرها، وذهاب شرها. والإحسان إلى الناس من أعظم ما تزكو به النفس، كما قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها، وكذلك ترك الفواحش مما تزكو به النفس، قال تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدا(النور: 21). وأصل زكاتها بالتوحيد وإخلاص الدين لله، ثم قال تعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ(فصلت: 6-7). وهي عند المفسّرين التوحيد. وقد بيّن النبي مقدار الواجب وسماها الزكاة المفروضة.فصار لفظ الزكاة- إذا عرّف باللام- ينصرف إليها، لأجل العهد”.
والخلاصة أن التزكية عمل يفترض بالمؤمن السعي من خلاله إلى تحقيق زكاة نفسه، وقد يتحقق فعلا بالبذل والإنفاق في سبيل الله بعد توحيده وطاعته، ولكنه قد يكون عطاء من الله لمن يشاء من عباده خاصة الأنبياء والأطفال ممن هم على الفطرة، فيوصفون بالزكاة، التي هي نتيجة لفعل التزكية. غير أن لفظ الزكاة إذا أطلق وعرف باللام دل على الزكاة المفروضة في مال المسلم. والله تعالى أعلم وأحكم.
دة. كلثومة دخوش