تـقـديــم
تعتبر وحدة الدولة في الفكر السياسي رمز السيادة فلا وحدة إلا بالسيادة ولا سيادة من غير وحدة ، وكل دولة تعرضت وحدتها للمس والتهديد فهو مس وتهديد لسيادتها ونيل من استقلالها، ولعل من أخطر الأزمات والصراعات التي يعاني منها العالم المعاصر هو النزاعات المتعلقة بالصراعات الداخلية أو التدخلات الأجنبية التي تسعى إلى تقويض وحدة البلد وزعزعة استقراره ودعم حركات التمرد والاستقلال، كما كان لمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها أثره في انتشار وعي كثير من الأقليات بحقوقها السياسية والثقافية والاقتصادية وحقها في تقرير مصيرها.
ولئن كانت مرحلة الاستعمار قد عرفت حركة كثير من الشعوب لنيل استقلالها وترسيم حدودها لكن ذلك تم وفق مصالح الدول الكبرى وتوازناتها مما ترك آثاره السلبية على استقرار هذه البلدان المستقلة إلا أن الموجة الحالية التي تزامنت مع نظام العولمة واتساع الحاجة إلى مصدر الطاقة والأسواق، وتوسيع الوعي العالمي بحقوق الشعوب والأقليات في تقرير مصيرها – وإن كانت هذه الحقوق قد أصبحت سيفا ذا حدين- ، مع ما حدث في بنية النظام الدولي من تغير في موازين القوى الدولية والفاعلين فيه، إضافة إلى ما ترتب عن الحرب على الإرهاب الذي أصبح يعادل في المخيلة الغربية الحرب على الإسلام، كل هذا وغيره أدى إلى إعادة ترسيم المشهد الدولي عبر إعادة تفكيك كثير من الدول وتكوين كيانات جديدة تخدم المصالح الجديدة وفق التوازنات الجديدة.
والسودان واحد من الدول المستقلة حديثا والتي ظلت وحدته الوطنية منذ استقلاله غير مستقرة، وفي العقود الأخيرة دخلت وحدة السودان وسيادته على أقاليمه منعطفا خطيرا مالت كل مؤشراته نحو التفكيك والتقسيم، وأصبحت مسألة انفصال جنوب السودان مسألة وقت فحسب،كما يمكن أن تتطور مسألة دارفور إلى نفس المصير إذا لم تعالج الأمور قبل فوات الأوان، وأصبح خطر التفكيك يهدد السودان ويقف حجر عثرة أمام سيادته وأمنه واستقراره وأمام كل مخططات البناء والتنمية. فما هي حيثيات الوضع السوداني؟ وما هي الكيانات والجهات الفاعلة فيه؟ ثم ما هي تداعيات استمرار أزمة الوحدة السودانية محليا وإقليميا ودوليا؟
أولا فــي الحـيـثـيـات
يصعب فهم أزمة النزاع في السودان ما لم يتم استحضار مجموعة من المعطيات المتداخلة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ودينيا وعرقيا، وفي تفاعلاتها التاريخية داخليا وخارجيا، وفي هذا السياق يمكن عرض مجموعة من الحيثيات التي تفاعلت في إفراز أزمة الوحدة والهوية والسيادة في السودان وتعميقها إلى هذا الحد.
أ- التنوع العرقي واللغوي والديني والمذهبي:
إذا نظرنا إلى التركيبة العرقية واللغوية والدينية والمذهبية للسودان وجدناها تركيبة يطبعها التنوع والتعدد، والتداخل والتضاد، والتمازج والتباين؛ ولئن كان السودان عبر تاريخه الإسلامي استطاع الحفاظ على هويته ووحدته واستقراره عبر الاندماج والانصهار العرقي داخل الدائرة الإسلامية إلا في حالات نادرة، فإن الوضع تغير أكثر مع المرحلة الاستعمارية وما بعدها، حيث عمل على تأجيج النزعات العرقية والدينية والمذهبية ونشر المسيحية والنزعات الأفريقانية لمحاربة الإسلام والعروبة وزرع عوامل تفتيت السودان، وتقدر الدارسات أن السودان يضم حوالي 56 جماعة عرقية تتوزع على 597جماعة فرعية، ومن الناحية الدينية يعرف السودان ديانتين كبيرتين هما المسيحية والإسلام يقسمان البلد إلى شمال مسلم 100/100 وإلى جنوب ذي أغلبية مسيحية، ومن الناحية اللغوية يتسم السودان بتعدد لغوي كبير إذ يقدر أن عدد اللغات واللهجات يصل إلى 115 لغة ولهجة يطبعها التباين والانفصال أحيانا والتداخل والتمازج أحيانا أخرى.
يضاف إلى ما سبق التعدد المذهبي والإيديولوجي الذي فرض نفسه كواقع لا يمكن القفز عليه -خلال مرحلة الاستعمار وما بعده- مثل المذاهب العلمانية، ليبرالية واشتراكية وشيوعية متطرفة وقومية وتبشيرية. كما كان للانشقاق الذي حدث في صفوف الحزب الحاكم وخروج جبهة الإنقاذ في شخص الدكتور حسن الترابي إلى المعارضة إلى أن تأخذ حركة العدل والمساواة زمام المبادرة في التمرد والمطالبة بحقوق أوسع في إقليم دارفور على غرار ما تحقق في الجنوب.
كل ذلك ظل يغذي -وبالتدريج – نزعات التمرد والانفصال ويعقد مسألة الوحدة الوطنية ويجعل الحديث عن الهوية السودانية أمرا معقدا، خاصة في ظل غياب استراتيجية وطنية لاستيعاب الجميع وغياب إرادة جماعية في التوحد، وهيمنة النزعات القبلية والعرقية الضيقة التي تجعل من الولاء للقبيلة سلطة مادية ورمزية لاشعورية أكثر تحكما في سلوك الأفراد والجماعات من الدولة ومؤسساتها، وفي ظل تغلغل النفوذ الخارجي وتداخل المصالح الإقليمية والدولية بات عسيرا الحديث عن هوية موحدة ومتعايشة في ظل دولة وطنية قوية وعادلة.
ب- ضعف الحكومات المركزية وغياب العدل في توزيع الثروات والتنمية:
مما عمق أزمة الوحدة في السودان أيضا ضعف الحكومات المركزية في الشمال في بسط نفوذها على كامل التراب السوداني الذي تترامى أطرافه، وعدم إدارة السلطة بين أبناء السودان بشكل عادل سواء في توزيع السلطة أم في توزيع الثروة، مما جعل مناطق الشمال تستفيد من مشاريع التنمية بشكل أوسع من بقية مناطق السودان التي شهدت تهميشا حتى في أقسى ظروف الجفاف وشدة الحاجة إلى التنمية، مما ولد تفاوتا واضحا بين مناطق البلد الواجد ففي دارفور مثلا يرى الدكتور عبد العظيم محمود حنفي:” أن عملية التنمية كانت معتقلة حيث إن حصة الإقليم من المشروعات الحديثة الصناعية والزراعية تكاد تساوي صفرا”(دارفور وصراع القوى الكبرى: د.عبد العظيم محمود حنفي، مجلة العسكرية كلية الملك عبد العزيز، ع:96 ، مارس 2009 صص66-69)، كما يشير د. بهاء الدين مكاوي إلى أن واحدا من مظاهر أزمة الهوية في السودان اختلاف مستوى التنمية بين الأقاليم المختلفة معتبرا ذلك من الأخطاء التي ارتكبتها الحكومات الوطنية في مرحلة ما بعد الاستقلال(التنوع الإثني والوحدة الوطنية في السودان: د. بهاء الدين مكاوي، مجلة السياسة الدولية، ع: 176 أبريل 2009، صص244-248).
هذا التهميش هو الذي غذى كثيرا من نوازع الحقد بين الشمال ومناطق التوتر في الجنوب والغرب التي تشعر بالغبن رغم كونها أهم مناطق السودان ثروة معدنية ومائية وحيوانية.
ج- التدخل الإقليمي والدولي وتداخل المصالح:
إضافة إلى العوامل الداخلية السالفة ساهمت العوامل الخارجية المتمثلة في تصادم مصالح الدول الكبرى من جهة وفي تقاطعها مع مصالح دول الجوار الإقليمي لدولة السودان، إضافة إلى تأثير المنظمات الدولية العاملة في السودان ومحيطه.
فعلى المستوى الدولي تتصادم مصالح كل من فرنسا وبريطانيا باعتبارهما البلدين اللذين تنافسا على الاستعمار في المنطقة منذ زمن مبكر إذ كانت منطقة حوض النيل ومنطقة القرن الإفريقي منطقة صراع قوي بين فرنسا وبريطانيا منذ المرحلة الاستعمارية إلى اليوم، كما أصبح تزايد المصالح الأمريكية وتزايد حاجتها في التدخل في المنطقة بدعوى الحرب على الإرهاب واتهامها للنظام السوداني بحماية الإرهاب ورعايته وتصنيفها للسودان ضمن دول محور الشر إضافة إلى ما أعلن من وجود ثروة نفطية ومعدنية في دارفور وجنوب السودان كل هذا يقوي صراع مصالح الكبار في السودان ويفرض تدويل أزمة السودان تلقائيا، إلى جانب هذا يمكن رد الحضور الأمريكي القوي في المنطقة إلى أمور أخرى إضافية أهمها:
أولا- مقاومة المد الإسلامي في المنطقة ومحاصرة عمل الجماعات الإسلامية ولو في صورها الخيرية والإنسانية أو في توجهاتها المعتدلة.
ثانيا- الخوف من اكتساح الصين إفريقيا واتساع استثماراتها فيها خاصة في السودان الذي توجه نحو الصين في مشاريعه التنموية بعد تصدع علاقاته بالغرب.
ثالثا- إيجاد قواعد عسكرية خلفية لدعم وجودها العسكري في الشرق الأوسط وحماية مصالحها الاستراتيجية وحلفائها في الشرق الأوسط خاصة إسرائيل التي توجهت منذ فترة مبكرة إلى حماية أمنها الإقليمي عبر توسيع دائرة حلفائها من غير العرب المسلمين ، وهذا ما يفسر الحضور القوي للاستخبارات والاستثمارات الصهيونية في إثيوبيا وجنوب السودان ودارفور حاليا وفي كينيا وأوغندا وإفريقيا الوسطى وغيرها من المواقع، وفي هذا السياق نفسه يمكن فهم الموقف الصهيوني الداعم للحركة الشعبية لتحرير السودان ومطالبها الانفصالية.
وعلى المستوى الإقليمي فإن علاقة السودان بدول الجوار تتسم بالمد والجزر والتقارب مع بعض المحاور والتباعد من أخرى خاصة الدول التي تتماس في حدودها مع حدود السودان، وفي هذا السياق نشير إجمالا إلى أن توتر العلاقات بشكل مستمر مع إثيوبيا (الحليف الاستراتيجي لحركة انفصال الجنوب) يعقد الوضع في الجنوب كما أن النزاع المستمر بين السودان وتشاد وسوء التفاهم مع النظام الليبي وجمهورية إفريقيا الوسطى يجعل حل مشكلة دارفور بين الأطراف الداخلية دون أطراف الجوار الإقليمي من باب تضييع الوقت ودخول البيوت من غير أبوابها، بل إن النزاع بين هذه البلدان ما هو إلا نزاع بالوكالة عن الدول الكبرى كما يرى كثير من المراقبين.
أما على مستوى عمل المنظمات الدولية فيلاحظ أن لها تأثيرا في زعزعة استقرار السودان إذ تركز معظم أنشطتها في المناطق النائية والفقيرة ، وهي تعمل إما في شكل منظمات واضحة مثل المجلس الوطني للكنائس والخدمات العالمية لليهود الأمريكيين والفرنسيين، أو في شكل أشخاص يعملون في منظمات دولية لها ارتباطات بجهات معادية مثلما تشير أصابع الاتهام إلى ديفيد روبنشتاين الرئيس السابق لتحالف إنقاذ دارفور الذي يذكر أن له ارتباطات بجهات دولية أمريكية مشكوك في أهدافها. كما لا يمكن إغفال الدور الذي قام به المدعي العام أوكامبو في تقريره ضد النظام السوداني ورفع مذكرة اعتقال في حق عناصر من هذا النظام -وعلى رأسها الرئيس السوداني عمر البشير- واتهامها بالتورط في جرائم حرب ضد الإنسانية في وقت يتم فيه التغاضي عن جرائم أفظع كما هو الحال في جرائم إسرائيل في غزة وجرائم الأمريكيين في العراق وأفغانستان.
ثانيا في التـداعـيـات
إن تعقد الوضع في السودان بهذه الدرجة يشير إلى صعوبة إيجاد حلول نهائية من شأنها تحقيق الأمن والاستقرار والاستقلال وانطلاق قاطرة التنمية في المنطقة، سواء أنتهى النزاع في جنوب السودان إلى استقلاله أم استمر هذا النزاع، فإن ذلك سيدفع السودان إلى دوامة أخرى من العنف والنزاع المسلح، وسيشجع كثيرا من المناطق على التمرد والمطالبة بالاستقلال خاصة إذا أصبحت المنطقة مفتوحة لتجار الأسلحة وجماعات التطرف الديني والعرقي والإيديولوجي محليا ودوليا. وهو الأمر الذي ستتسع دائرة تداعياته إلى دول الجوار ويمكن أن يؤثر ذلك على مصالح الدول الكبرى نفسها في المنطقة ويدفع إلى مزيد من العسكرة والتدخل المباشر الذي لن يزيد الوضع إلا تعقيدا وسوءا، ولن يكون ضحاياه إلا الأبرياء والفقراء، ولن يكون الخاسر فيه إلا الدول الفقيرة والكيانات الصغيرة رغم أن الخسارة يمكن أن تلحق الجميع.
> د. الطيب الوزاني