كان شيخي د. عبد السلام الهراس هو من عرفني إلى أستاذي د. عبد الله الطيب، وكنت يومها أمر بمحنة البحث عن مشرف على رسالتي الجامعية في الأدب الجاهلي، بعدما سُحب الإشراف من أستاذي المصري الذي نُقل من كلية الآداب بفاس إلى كلية اللغة العربية بمراكش، فألغي تسجيل طلبته تلقائيا، وكانوا قلة، وقد حدثني عن بعض أسباب ذلك، مما لا أريد نشره، فنقلتُ ملفي إلى الرباط بعد قبول أستاذ سوري الإشرافَ على البحث، وكان مشهودا له بالعلم، ويشترك مع د. عبد الله الطيب في الصرامة العلمية، ومن أمثلة صرامته أنه أشار علي يوما بالعودة إلى كتاب نادر، ولما رجعت إليه بعد مدة معتذرا بعدم عثوري عليه، لم يقبل عذري، وقال لي: ابحث عنه في أي مكان.. في مصر أو الشام أو الهند أو أوربا، ولا تعتذر. وبعد اجتهاد وجدت الكتاب بالمغرب، دونما حاجة إلى السفر. إلا أنني استفدت من موقفه ذاك درسا عظيما، وقد سافرت بعد ذلك فعلا إلى عدة بلدان سعيا وراء بعض المصادر، كان منها باريس والحجاز والهند ودمشق، يوم كنت معنيا بالبحث في أبي الطيب وما إليه. وقد بقي ملف تسجيلي للماجستير معلقا بكلية الآداب بالرباط زمنا طويلا، وأنا أتابع البحث العلمي مع أستاذي، معتبرا أن التأخر في قبول ملفي بالرباط لا يعدو أن يكون إجراء إداريا بحتا، إلى أن أخبرني أستاذي يوما أنه لا يمكن متابعة الإشراف دون الحصول على شهادة التسجيل الرسمي، فلما قلت إن الأمر مسألة إدارية تحل مع الوقت، أخبرني أن ملفي لن يقبل في كلية الآداب بالرباط بحال، لأسباب ذكرها لي. فوليت وجهي نحو أستاذي عبد السلام الهراس مستشيرا، فقال لي: أبشر، لقد التحق بنا أستاذ عظيم، هو الدكتور عبد الله الطيب. وهكذا صار هذا الرجل مشرفا على رسالتي، ورزقني الله بذلك صحبة علمية وتربوية ما كانت لتتحقق لولا ما حيك من مؤامرات، فتحققت بذلك في حقي الآية الكريمة: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.
والغريب أن محنة الماجستير تكررت عندما أردت متابعة بحثي للدكتوراه مع د. عبد الله الطيب. فقد دفعت ملف التسجيل موقعا من المشرف إلى إدارة التسجيل، ولكن التسجيل لم ينجز. وكنت كلما سألت تقدمت الكاتبة بعذر، أعلم أنهم يلقنونها إياه، حتى صرت مشفقا عليها من كثرة الأعذار. فمرة قالت إن ملفي ضاع، وإنّ علي تقديم ملف جديد، ومرة قالوا إن موضوع بحثي في الاستشراق الفرنسي، والمشرف (يعنون عبد الله الطيب) لا يعرف الفرنسية. وهي حجة أوهى من حجة نحوي كما يقال، فالأستاذ متمكن من اللغة الفرنسية، تمكنه من الإنجليزية، حتى قبل أن يلتحق بالمغرب، وكانت زوجته الإنجليزية جوهرة هي التي ألحت عليه في تعلمها. وهكذا دواليك. فلما يئست حولت التسجيل إلى كلية آداب الرباط.
كانت الحفاوة التي كان يستقبل المرحوم عبد الله الطيب بها طلابه بالغة، وكان لا يضجر ولا يتأفف من الزيارات، متى ما أحسّ أن الزائر بحاجة إلى علم. وخلال زياراتي المتعددة أفدت علما عظيما منه. وقد سألني أستاذ مقتدر، بعد مناقشة رسالتي، عما أفدت من عبد الله الطيب، فقلت: أشياء كثيرة، فسألني: مثلا، فقلت: المنهج. فنظر إلي باستغراب وقال: كيف؟ عبد الله الطيب لا منهج له. وعجبت عجبا شديدا من هذا الحكم، وأن يصدر من أستاذ مشهود له بالعلم والفضل، ولكنني لم أعلق. وقبل أن أشير إلى بعض معالم المنهج الذي استفدته من عبد الله الطيب، أنقل بعض ما قاله طه حسين عن عبد الله الطيب وعن منهجه، رغم ما نعلمه عن طه حسين من شحّ في الثناء على عالم أو أديب، فهو لا يتردد مثلا في أن يصف شاعرا أجمع المصريون على شاعريته، وهو محمود أبو الوفا، بأنه ليس شاعرا، بل هو (نظام)، ويتناول بالنقد، في حديث الأربعاء، (جداول) إيليا أبي ماضي، فيحكم على لغة الشاعر الكبير بأنها إن لم تكن ضعيفة فهي أقرب إلى الضعف والركاكة. بل هو حكم على زميله محمد حسين هيكل بحكم شبيه بذلك، هذا وهو من مدرسته، فكيف لو أخذنا رأيه في خصومه من أمثال الرافعي؟ ومع ذلك فإن طه حسين لم يقل في عبد الله الطيب إلا خيرا.
فمما قاله في تقديمه لكتاب «المرشد الى فهم أشعار العرب»: «هذا كتاب ممتع إلى أبعد غايات الإمتاع لا أعرف أن مثله أتيح لنا في مثل العصر الحديث».
وطه حسين الذي اشتهر عنه أنه قال: (ويل للأديب إن رضي أو اطمأنّ)، ولم يكد شيء يرضيه كل الرضى، يقول مطمئنا إلى حكمه على عبد الله الطيب وكتابه: «ثم لم أكد أقرأ منه فصولا حتى رأيت الرضى عنه والإعجاب به يفرضان عليّ فرضا».
ووصف الكتاب قائلا: «طرفة أدبية نادرة حقا لن ينقضي الإعجاب بها والرضى عنها لمجرد الفراغ من قراءتها، ولكنها ستترك في نفوس الذين سيقرؤونها آثارا باقية». ويرى «أن خير الآثار الأدبية عنده وعند كثير من الناس ما أثار القلق وأغرى بالاستزادة من العلم ودفع إلى المناقشة وحسن الاختيار».
وأما عن منهج عبد الله الطيب فيقول طه حسين: إن الرجل «لاءم بين المنهج الدقيق للدراسة العلمية الأدبية وبين الحرية الحرة التي يصطنعها الشعراء والكُتَّاب».
هذا هو منهج عبد الله الطيب: الملاءمة بين الدقة والصرامة، مما تتطلبه الدراسة المنهجية، من جهة، وبين ما سماه طه حسين “الحرية الحرة”، أي دون التقيد بقواعد منهج معين، مستحدث أو قديم. إنه صاحب منهجه. وهذا أمر يستطيع تلمسه من كان على صلة بكتبه المتعددة والمتنوعة. ولكنني أسوق أمثلة مما لا يجده القارئ مدونا في الكتب، بل هو مما لمسته من أستاذي أثناء ملازمتي له.
ذات يوم رد إلي فصلا من فصول البحث وقد دون عليه ملاحظاته. وكانت طريقته في تدوين الملاحظات أن يكتفي باللمح العابر، دون التفصيل، ثم يعتمد بعد ذلك على نباهة الطالب الباحث. وقد كنت، على ما جرى عليه عرف المحدثين، مغرما باستعمال المجاز، دون تدقيق في جزئياته. وقد كتبت يوما: (إن الإبحار في زوايا النص)، فما زاد على أن علق على هذه العبارة بقوله: (كيف يكون الإبحار في الزوايا؟)، فكانت هذه الملاحظة لكي تجعلني أحترس في المستقبل من استعمال المجاز بلا ضابط. ولما نظرت في الفصل الذي صححه وجدته علق على تحليلي لبعض أبيات قيس بن الخطيم بقوله: (هذا من قري: لا ترى الضب بها ينجحر). ولم يزد. وقد حيرتني تلك الإشارة، إلا أنها فتحت أمامي بابا عظيما من أبواب العلم.
ولنا عودة، إن شاء الله تعالى، إلى الحديث عن قوله: (لا ترى الضب بها ينجحر).
يلتقطها أ.د. الحسن الأمراني