أنواع من التوريث ينبغي الاعتناء بها :
2- كتب الذكريات أو المذكرات
من المصادر الثرية بالتجارب التي تستحق الاعتناء بالتوريث وتوقيف الأجيال عليها كتب الذكريات أو المذكرات، وذلك لأن أصحابها سطروا فيها عصارة تجربتهم وخلاصة حياتهم، بعد أن خبروا الحياة وخبرتهم، وعاركوها وعركتهم، وواجهوا مواقف كثيرة خرجوا منها بنجاح أو فشل، وبلوا الناس وعرفوهم، فجاءت تلك الكتب على ما يشتهي القارئ ويحب غالبا(1).
والمذكرات في كل المجتمعات والبيئات ثروة طائلة يعتنى بها وتبرز وتدرس، بل إنها تكون محط أنظار الباحثين الاجتماعيين والناظرين المتدبرين في أحوال وسنن الحياة، والمؤرخين الذين يربطون بتأريخهم الماضي بالحاضر والذاهب بالآتي، وبعض عظماء الرجال والنساء في الغرب يراودون لكتابة مذكراتهم بالملايين الطائلة، وما ذلك إلا لمعرفة دورالنشر بالأهمية البالغة التي تمثلها هذه المذكرات، وإقبال الناس عليها إقبالا منقطع النظير.
هذا وإنه في ديارنا العربية قصور كبير في التعامل مع المذكرات كتابة وقراءة، أما القراءة فانصراف أكثر الناس عن قراءة كل نافع مفيد في المجالات الأدبية والاجتماعية والتاريخية والدعوية وغيرها، وأما كتابة الذكريات والمذكرات فإن أكثر العظماء عندنا ـ وما أكثرهم مقارنة بغيرنا من الأمم والشعوب منصرفون عن هذه الكتابة لسبب أو لآخر، فيموت الواحد منهم عندما يموت وقد خلف حسرة في النفوس من ضياع تجارب كثيرة تناقلتها الألسن والأذهان ثم أصبحت في طي النسيان كلها أو أكثرها، نعم إن بعض العظماء لا يتمكن من كتابة مذكراته لأنه غير آمن أن يؤاخذ بسببها، لكن ما لا يدرك جله لا يترك كله، ويمكن لكاتب الذكريات أن يكتب قدرا كبيرا من تجاربه من غير حرج ولا قلق(2).
والذي ينبغي على كل من يظن أن عنده تجارب تستحق الكتابة والنظر فيها ألا يتردد في كتابتها ولا يحقرنها فتذهب أدراج الرياح، وما أحسن ما قاله الأديب الدكتور إحسان عباس(3) عندما قال :
“فاتحني عدد غير قليل من الأصدقاء في أن كتب سيرتي الذاتية، فأخذ اقتراحهم يمثل هاجسا يدور في نفسي ويستثير ذاكرتي، ولذا توجهت إلى أخي بكر عباس أسأله رأيه في الأمر، فكان جوابه المباشر أن قال : لا أنصحك بذلك، لأن حياتك تخلو أو تكاد من أحداث بارزة تثير اهتمام القارئ وتطلعاته، كان ما قاله أخي وصديقي بكر صحيحا، فأنا أعرف أنني لم أشارك في أحداث سياسية، ولم أتول مناصب إدارية، ولم أكن عضوا في حزب، ولم أكن مسؤولا عن مشروعات اقتصادية، إلى آخر ما هنالك من نشاطات تعرض الفرد للمسؤوليات الاجتماعية والوظيفية، وعلى الرغم من ذلك كله وجدتني أميل إلى كتابة سيرتي ـ ومنهجي فيها التزام الصدق فيما أسرده ـ لا لأن ما أكتبه تاريخ مهم، بل لأنه يمثل تجربة إنسان حاول في كل خطواته أن يخلص للعلم بصدق ومحبة…”(4).
هذا وهناك بعض من الناس لا ترقى ذكرياتهم إلى أن تنشر على الناس لخصوصيتها المطلقة أو لضعفها النسبي أو لغير ذلك، فمثل هؤلاء يصح لهم أن يكتبوا ذكرياتهم لأنفسهم أو لأولادهم وأحفادهم، قال الأستاذ علي الطنطاوي ـ رحمه الله تعالى ـ في ذكرياته :
“أوصي كل قارئ لهذه الفصول أن يتخذ له دفترا يدون فيه كل عشية ما رأى في يومه، لا أن يكتب ماذا طبخ وما ذا أكل، ولا كم ربح وكم أنفق، فما أريد قائمة مطعم ولا حساب مصرف، بل أريد أن يسجل ما خطر على باله من أفكار وما اعتلج في نفسه من عواطف، وأثر ما رأى أو سمع في نفسه، لا ليطبعها وينشرها فما كل الناس من أهل الأدب والكتابة والنشر ولكن ليجد فيها يوما نفسه التي فقدها”(5).
لكن قد تساوي ذكريات بعض الدعاة ممن ليست له دربة أدبية ولا لغة راقية ذكريات جماعة كبيرة من الأدباء من حيث قيمتها وأهميتها، فيمكن للأخ الداعية أن يسطرها للنشر بلغة مقبولة على الأقل مرتفعة عن الخطاب السوقي العامي، وسيعوض غزارة ما فيها من ذكريات مهمة النقص في الأسلوب أو الركاكة في بعض الجمل، والله أعلم(6).
والذي ينبغي على كل من انصرفت همته لكتابة ذكرياته ونشرها الآتي :
1- التعجيل بكتابتها قبل الهرم والشيخوخة، فإن المرء الهرم يملُّ ويكلُّ، وينسى كثيرا من الأمور المهمة التي مرت عليه في حياته، وقد تسقط من ذكرياته للأبد، فالقيد هنا بالتبكير بالكتابة مهم، وما أصدق ما قاله الأستاذ على الطنطاوي ـ رحمه الله تعالى ـ عندما كتب ذكرياته في حال شيخوخته :
“لم أجد عندي شيئا مكتوبا أرجع عند تدوين الذكريات إليه وأعتمد عليه، وما استودعت الذاكرة ضعفت الذاكرة عن حفظه، وعجزت عن تذكره، لذلك أجلت وما طلت، وحاولت الهرب من غير إبداء السبب”(7).
وقال أيضا : “وليس لدي أوراق مكتوبة أدون فيها الحادثة عند حدوثها وأصف أثرها في نفسي، وهذا تفريط كان مني لم يعد إلى تداركه من سبيل(8).
وقال أيضا : “كنت أغرف من بحر وأنا اليوم أنحت في الصخر، كان الفكر شابا فشاخ.. كان قلمي يجري على القرطاس كفرس السباق لا أستطيع أن أجاريه فأمسى كالحصان العجوز أجره فلا يكاد يجر، كانت المعاني حاضرة والقلم مستعدا…”(9).
وقال الأستاذ إحسان عباس :
“إن كان هناك من عيب في الإقدام على كتابة مثل هذه السيرة فذلك هو أنها تأخرت في الزمن، وكان من الحق أن أكتبها قبل حلول الشيخوخة وامتلاء النفس بألوان من المرارة والخيبة”(10).
وهناك علاج ناجح لتذكر عدد من الوقائع التي أصبحت طي النسيان ألا وهو أن يجتمع مدون ذكرياته بمجموعة تذكره ما نسيه، وتطرح عليه أسئلة مناسبة لتجعله يتذكر ما أغفله وأهمله، فتسأله عن أشخاص محددين أو قضايا محددة، وهذا مفيد مجرب.
2- تسطير الوقائع كما وقعت مع التعليق عليها بم هو مناسب للمقام حتى تكتمل الفائدة المرجوة من إيرادها، فإن بعض الوقائع لا يكاد القارئ يفقه المراد من تسطيرها أو يجهل سبب وقوعها، أو لا يدرك خلفيات الأحداث ومجرياتها، لذلك لا بد من كتابة الوقائع مع التعليق المناسب، واستخلاص العبر والعظات مما جرى فإن ذكريات الدعاة ليست كغيرها من الذكريات.
3- التدرج في كتابة الذكريات :
إذ أن أكثر ما يصد الناس عن كتابة ذكرياتهم ضخامة ما فيها من معلومات وتفاصيل، فإذا نظر إلى شريط حياته وتدبره فإنه سيوقن بعظم ما هو مقبل عليه، ومثل هذا قد ينصرف كليا عن كتابة أي شيء، خاصة إن كان في زمان الشيخوخة أو حولها، وبعضهم قد يكتفي بكتابة شيء يسير يضيع على الناس معه كنوز عظيمة، فعلاج مثل هذا أن يشجع على الكتابة ولو نصف ساعة كل يوم، أو أن يجمع له بعض الطلبة النابهين يسجلون له ما يقول في جلسات متعددة طويلة، ويحفزون ذاكرته بما يلقونه عليه من أسئلة، وهذا مجرَّب نافع لا شك، وكم من ممتنع عن كتابة ذكرياته سَلُس قياده بمثل هذه الأفكار، وليُعلم أن هؤلاء كنز للأجيال اللاحقة، فليحرص عليهم وليُتخير منهم من عظمت قيمة ذكرياته بعظيم ما ورد فيها من أحداث.
4- كتابتها بالأسلوب الأدبي المناسب، فإن بعض الأشخاص المتعرضين لكتابة الذكريات لا يرقى أسلوبهم إلى أن يكون جذابا مشوقا، وقد ينصرف القارئ تماما عن الكتاب بسبب هذا، لذلك ينبغي الاعتناء بطريقة الكتابة اعتناء مناسبا، وحبذا لو سُوعد من كان لا يستطيع تسطير ذكرياته على وجه مناسب بشخص يصوغ له الأحداث بأسلوب جيد مناسب.
5- عدم إيراد ما يؤذي الآخرين، فإن الأحداث ليست ملكا لصاحب الذكريات فقط بل هي له ولغيره، فلا يورد شيئا يرى أنه يضر الآخرين بوجه أو بآخر، وإن فعل فليغفل الأسماء، وليبتعد بالسياق عما يمكن أن يعرف منه أسماء الأشخاص مما يجر إليهم الأذى أو الحرج، فإن ذلك لا يجوز، وهو من خوارم المروءة.
6- عدم الاستطراد إلا بقدر، والإيجاز في إيراد الأحداث، فإن أهل هذا العصر لا يحتملون التطويل ولا يقبلون على القراءة إقبال القدامى عليها، فالإطناب يحرم القراء من الثروات التي في الذكريات، كما أن الإيجاز يرغبهم في قراءة الذكريات والإقبال عليها.
7- وينبغي أن يُعلم أنه بقدر ما تسطر في الذكريات من مهمات الوقائع سيكون الإقبال عليها والاستفادة منها، فليحرص كل كاتب لذكرياته أن يجتهد في كتابة ما ينفع العامة، لا أن يجعلها ميدانا للحديث عن نفسه والفخر بما صنع، ولا بأس في الحديث عن نفسه بقدر لكن لا يجعلها كأنها كانت محورا للأحداث، والصانعة لها، فإن الحديث عن النفس ثقيل، فليخفف منه كل من كتب ذكرياته ما استطاع إلى ذلك سبيلا، والله أعلم(11).
د. محمد موسى الشريف
——-
1- إنما مرادي من كتب الذكريات ما كان منها لعظماء علماء ودعاة الإسلام، أما غيرهم ممن تخبط طويلا وضل وأضل كثيرا فيتخير منها بحذر ودقة ما كان نافعا ويُنبذ ما سوى ذلك، والله أعلم.
2- أنظر المبحث الثالث، العقبة الثالثة، ففيها شيء من التفصيل.
3- أحد المحققين الكبار للتراث، وهو مشهور في الأوساط الأدبية، معاصر، باق.
4- “غربة الراعي” : 5-6
5- “ذكريات” : 9
6- أنظر رقم 4 الآتي.
7- “ذكريات” : 1/5.
8- المصدر السابق : 1/9.
9- المصدر السابق : 1/16.
10- “غربة الراعي” : 7
11- ومن كتب المذكرات المهمة المتعلقة بالدعوة إلى الله تعالى كتاب “مذكرات الدعوة والداعية” للإمام حسن البنا، وكتاب “من سجل ذكرياتي” للشيخ محمود الصواف، وأجزاء من كلام الشيخ علي الطنطاوي في “ذكرياتي”، وبعض أجزاء من كلام الشيخ الندوي في كتابه “في مسيرة الحياة” وكتاب “مذكرات سائح في الشرق العربي” له ايضا، وكتاب “ذكريات لا مذكرات” للأستاذ عمر التلمساني، وغير ذلك من الكتب.