نظام التربية والتعليم في أي مجتمع هو سيف ذو حدين. فقد يكون مفتاحا لكل خير كما يكون مدخلا لكل شر، ويكفي ليكون مدخلا للشر، أن يُهمل فلا يُعنى به، أو يُدخَل فيه ما ليس منه مما يصادم مقومات الأمة وثوابتها ويهدمها. وكل من الإهمال أو إدخال المناقض يكون سببا كافيا في التعجيل بفناء الأمة وذوبانها، وهما مصيران منهي عنهما شرعا وغيد مقبولين عقلا؛ للنهي عن مقدماتهما. كما يكفي ليكون مفتاحا لكل خير أن يصان من جهتين : من جهة ما يقيمه ويثبت دعائم الهوية ومقومات الأمة، ومن جهة ما يدفع عنه ما يضاده ويصادمه ويهدمه.
لذلك فالأمة المسلمة مأمورة -لكي تبقى أمة مسلمة قائدة رائدة وشاهدة، أمة ناسخة وراسخة- بأن تعنى بنظامها التعليمي عناية تجمع ثلاث عمليات : عملية الإقامة وعملية الاستقامة وعملية التقويم :
فالإقامة تعني إقامة نظام حياتها عامة ونظامها التعليمي على قواعد الشرع الإسلامي وأسسه.
والاستقامة : أن تكون الاجتهادات والإجراءات المنصبة على تجديده وتنزيله مستقيمة على نهج الله وهداه.
والتقويم يعني استصلاح الدخيل والوافد وتهذيبه حتى لا يكون مناقضا وهادما بل يكون لأصول الدين في التعليم والتربية بانيا وداعما ولمقاصدها خادما.
وهاهنا مكمن الداء وأصل الوباء؛ إذ لما عطلت الأمة وظيفتها في إقامة نظامها التربوي واستقامته وتقويمه، صار هذا التعليم بوابة واسعة لدخول الشوائب والغرائب، ومعبرا تمر منه جحافل الغزو الفكري والمحو الحضاري و صار محضنا لاستنبات الأفكار الغربية الهجينة واللقيطة والأخلاق الساقطة وتربية ناشئة المسلمين عليها؛ فصار نظامنا التعليمي معضلة المعضلات وعنه تسربت كل مظاهر الخلل في التصور والسلوك، ومنه سرى الفساد والفشل إلى كل القطاعات الحيوية في جسم الأمة (سياسة وقضاء واقتصادا واجتماعا وأسرة وبيئة …)، فظهرت على الأمة بسبب ذلك كل مظاهر الضعف والوهن ، وأحاطت بها ظلمات الفتن والمحن، وتكالب عليها شرار الدول والأمم، حتى أفلت من يدها زمام هذا النظام أو كاد.
ولئن كان النظام التربوي والتعليمي في مجمله عُد بمثابة ناقلة كبرى للأفكار والقيم فإن مواده وشعبه عدت حاويات كبرى لنقل هذه المعارف والقيم ، كما أن مواده تفاوتت في قابليتها لحمل هذه القيم ونقلها، وعدت مواد اللغات وآدابها ومواد الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية والفنية أول هذه المواد وأكثرها أهمية ولذلك تم التركيز على هذه المواد من جهتين: جهة إفراغها من القيم الإسلامية ، ومن جهة شحنها بقيم الفكر الغربي إلى حد التخمة والتضخم والتكلف.
ولم تسلم العلوم الشرعية ومادة التربية الإسلامية من هاتين العمليتين حتى وجدنا التعليم الشرعي ومادة التربية الإسلامية كادت أن تصبح مجرد رسوم ومواد جامدة لا أثر لها في التهذيب والتكوين بله تخريج الجيل الراسخ الناسخ!! وما ذلك إلا أن مقص والبتر والتعديل لحق أعضاءها الحيوية الفاعلة حتى كادت أن تخرج على مقاس الرؤية الغربية للدين وعلومه ووظيفته!!
والمحجة إذ تفتح جزءا من الحديث عن بعض صور ونماذج تضخم الثقافة الغربية في توجهها الحداثي في منظومتنا التربوية والتعليمية على حساب القيم الإسلامية ومقومات هويتنا الحضارية تقصد إلى التنبيه على أن الاختلالات الكبرى في هذه المنظومة لا ترجع أساسا إلى الأسباب المادية (تجهيزات، وتدابير إدارية) كما يروج لذلك، بقدر ما ترجع إلى اختلالات في التصور العام لنظام التربية والتكوين وفي توجهاته الكبرى من قضايا الألوهية والوجود والحياة والإنسان والمصير، وفي مناهجه في بناء الإنسان وتدبير شؤون الأسرة والمجتمع والدولة والأمة والناس جميعا، ليتبين بعد ذلك أن الاختلالات المادية والإدارية والسلوكية ما هي إلا نتيجة ومظهر لداء أعمق هو داء اختلال البناء العام لمنهاج التربية والتعليم من خلال إهمال التصور الإسلامي وقيمه وإبعاده في مقابل تضخيم حضور الفكر الغربي وقيم الحداثة الغربية في مواقفها المخالفة لأصول الدين والمُصادِمة لهوية الأمة ومقوماتها. فمن أين يبدأ الطبيب في علاجه للمريض : هل من أعراض المرض أم من أصله ومصدره؟
نأمل أن يجد القارئ في مقالات هذا الملف بعض ما يكشف عن عمق الأزمة الكامنة في إبعاد التصور الإسلامي وتقزيم حضوره والتمكين لقيم الحداثة الغربية ومخاطر ذلك على ناشئتنا ومستقبل الأمة وهويتها.
د. الطيب بن المختار الوزاني