تتعرض الأمة الإسلامية لحشد هائل من الأزمات والمعضلات يكاد لا يحصى، بحيث لا يسلم من أذرعها الحادة، وآثارها المدمرة وعواقبها الوخيمة مجال من المجالات، أو قطاع من القطاعات، في السياسة والاقتصاد، وفي التربية والاجتماع وغير ذلك.
فحيثما وجهت وجهك في بنيات المجتمع وهياكله تطالعك التصدعات والثغرات، وتصدمك التشوهات والتناقضات، وقد تميزت تلك الأزمات بجثومها الثقيل، وإصرارها على الاستمرار، فهي تتميز بالمشاكسة والمعاندة، وبالاستعصاء على الحل، أو لنقل: إن سبب اتخاذها لهذه السمات هو أنها تجد تربة خصبة تساعدها على اكتساب هذه الخاصية، التي يمكننا تشبيهها بالدوران في الحلقة المفرغة التي لا يتولد عنها إلا اليأس والإحباط، واجترار مزيد من المعاناة، وتلقي مزيد من الضربات الموجعة التي قد يترتب عن استمرارها نوع من المازوشية التي تعني استعذاب الضربات، واستمراء الجراحات.
يقع هذا على المستوى العادي من الوجود الاجتماعي الذي ينعدم فيه الوعي بحقائق الواقع، وما يكمن وراءه من عوامل وأسباب، ومن خيوط دقيقة، أما على المستوى الرفيع، فقد ظل المجتمع الإسلامي منذ عصر الانحطاط، وحتى مطالع عصر النهضة، وإلى يومنا هذا محط دراسة ونظر، واستقصاء وتحليل، بهدف تشخيص الداء ثم وصف الدواء، فلم يدخر رواد الفكر والدعوة والإصلاح بجميع تياراتهم ومذاهبهم جهدا في هذا السبيل، وتعددت الرؤى والنظريات التفسيرية، وترتب عنها تعدد في الصيغ والنماذج والمنطلقات المقترحة كسبيل للخروج من نفق الأزمة، أو لحل المعضلة التي ظلت جاثمة على الصدور، بلا رحمة ولا هوادة.
إن الإنسان المسلم المنخرط في واقع أمته، يجد نفسه مدفوعا، بحكم المعاناة والحيرة إزاء معضلة التخلف والانحدار، والضعة والهوان، والعجز والارتهان، إلى طرح سؤال مؤرق، يتعلق بتحديد أم المعضلات التي تمثل أصل الأصول فيما نعانيه من نكد وبلاء، على جميع الأصعدة والمستويات، هل هو ضعف الممارسة في السياسة أو الاقتصاد؟، أم هل هي تعثر الثقافة والتعليم، هل هي التحديات الداخلية أم الخارجية؟ وغيرها من ثنائيات، وإشكاليات.
وتكمن الأهمية البالغة والقصوى لهذا السؤال المؤرق في أن الجواب الصحيح عليه يمثل المدخل الصحيح للشروع في إعادة بناء الذات، ولا أقول ترميم الذات؛ لأنها أضحت كثوب ضم سبعين رقعة مشكلة الألوان مختلفات. وإن الباحث الموضوعي النزيه لا مناص له وهو يتفحص واقع الأمة المتردي بعين سليمة ناقدة، ومنهجية علمية سديدة، من أن يرد الفروع إلى الأصول، وأشتات العناصر إلى العامل الرئيسي الذي يعتبر أصل المعضلات، وأس المشكلات، إنها معضلة الفرقة والشتات، فهذه المعضلة تتمظهر على كل الأصعدة والمستويات، ولكن لا بد أن نحدد نوع هذه الفرقة أو التفرق، إنه التفرق في الدين الذي جاءت آيات كتاب الله العزيز تحذر منه أشد التحذير، وتشدد على من يتولون كبره النكير. يقول الله تعالى: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم (آل عمران: 105). ويقول سبحانه وتعالى: وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (الأنعام: 153). ويقول سبحانه: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون (الأنعام: 159). ويقول تعالى: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (الشورى: 13).
إن هذه الآيات البينات تنهى نهيا قاطعا عن الاقتداء السيئ والشنيع بصنيع من اقترفوا فعل التفرق واختاروه أسلوب حياة ممن سبقوا من أهل الأديان، رغم ما جاءهم من بيان، وتأمر باتباع صراط الله المستقيم، وتنهى عن اتباع السبل المتفرقة التي من شأنها أن تبعد عن سبيله سبحانه جل وعلا، وتقصي من فرقوا دينهم بتبعيضه والافتراق بسبب سوء فهمه إلى شيع، من دائرة الانتماء إليه، ودائرة الانتساب إلى رسول الله الذي بلغه في منتهى صفائه وكماله، وبينه منتهى البيان بحيث يمنع متلقيه من أي زيغ عن جوهره ومقصده الذي هو جمع الشمل وتوحيد الوجهة والحرص على وحدة الدين، وتنهى عن التفرق فيه فهما وعملا وولاء، باعتبار وحدته. إن الإسلام ينهى عن تفريق الدين ومفارقته والتفرق فيه، ونحن إذ نتدبر الأمر نجد أن ما أضحى ينخر التفاريق والأجزاء المتناكرة والمتدابرة المسماة أمة إسلامية تجاوزا، إن هو إلا نتاج وبيل لتلك المعضلة المتعددة الأذرع والرؤوس، وأن الذي يخرج هذه التفاريق من حالة البؤس والنكد، وحالة الضعف والهوان، هو اجتماعها على كلمة الحق المبين، ورجوعها إلى الدين، وأوبتها إلى رحابه.
لقد دلت التجربة على مستوى شعوب العالم الإسلامي، أن كل الدعوات المناوئة للإسلام وإيقاعه المنسجم البديع، هي دعوات خارقة للوحدة والإجماع، خاصة عندما تركب أسلوب العناد، وتنصب نفسها بكل تبجح، باعتبارها البديل عن الدين الذي ارتضاه الله لعباده المؤمنين، وأن معضلة المعضلات في كل الشؤون، هي معضلة التفرق في الدين.
وصدق الله العظيم القائل: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا (آل عمران: 103).
د. عبد المجيد بنمسعود