ما المقصود بالفطرية؟
الفِطْرِيَّةُ: مصدر صناعي أخذناه من الفِطْرَةِ. وهو دَالٌّ -بمصدريته تلك- على معنى دعوي. أي على “فِعْلٍ” واقعٍ في الفطرة ومن أجلها، سواء في النفس أو في المجتمع. ومن هنا سَكَكْنَاهُ مصطلحاً نعبر به عن مشروع دعوي عام، وعن تصور كلي للعمل الإسلامي، نرجو أن يوفقنا الله إليه. وهو ما نتوسل إلى محاولة ضبطه بمسمى الفطرية.
فأما حَدُّهَا فهو:
إِقَامَةُ الوَجْهِ للِدِّينِ حَنِيفاً، خَالِصاً للهِ؛ وذلك بِمُكَابَدَةِ القُرْآنِ ومُجَاهَدَةِ النَّفْسِ بِهِ تَلَقِّيّاً وبَلاَغاً؛ قَصْدَ إِخْرَاجِهَا مِنْ تَشَوُّهَاتِ الْهَوَى إلَى هُدَى الدِّينِ الْقَيِّمِ؛ ومِنْ ظُلُمَاتِ الضَّلاَلِ إلَى نُورِ الْعِلْمِ بِاللهِ.
فبناء على هذا التعريف؛ تكون “الفِطْرِيَّةُ” بمثابة عملية إصلاحية وجدانية، تقوم أساسا على تصحيح ما فسد من فطرة الإنسان، المجبول أصلا على إخلاص التوحيد، وإصلاح ما أصابها من تشوهات تصورية وسلوكية، في شتى امتداداتها العمرانية.
ذلك مقتضى الآيات – عِبَارةً وإشارةً وسياقاً – من قوله تعالى، الجامع المانع في هذا المعنى العظيم، وهو النص القرآني الفريد الذي يقول فيه الله جل جلاله: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَن اَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ. فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا. لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ. ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ. مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ. وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم:29- 31).
القرآن هو خطاب الفطرة
وهي دائرة من حيث المنهج على تلقي رسالات القرآن، من خلال تلقي آياته كلمةً كلمةً، ومكابدة حقائقه الإيمانية مَنْـزِلَةً مَنْـزِلَةً، إذ لا تَخَلُّقَ للنفس إلا بمعاناة! ولا تخلص لها من أهوائها إلا بمجاهدة! فالقرآن هو خطاب الفطرة، من حيث هي راجعة إلى “إقامة الوجه للدين”، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَت اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}. وقد كان ذلك -منذ كان- بتلقي آيات القرآن، وما تجدد قط في التاريخ إلا بتجديد التلقي لها، بناءً وتربيةً وتثبيتاً، على مُكْثٍ من الزمان.
ذلك هو المنهج الدعوي الأصيل الذي يصرح به القرآن: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً}(الفرقان: 32). {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنـزِيلاً}(الإسراء: 106). وتلك هي الحكمة الأولى من تنجيم القرآن على مدى ثلاث وعشرين سنة! فإما أن تستقيم الدعوة والتربية على هذا الوِزَانِ؛ وإلا فلا تَخَلُّقَ ولا تَحَقُّقَ، ثم لا صَلاَحَ ولا إصْلاَح!
ومن هنا كان مدار التربية الفِطْرِيَّةِ ومحورها الأساس، إنما هو كتاب الله جل علاه، إذْ هو كتاب الفطرة الذي عليه استقامت يوم قامت، وعليه يجب أن تستقيم كلما انحرف بها المسار. ولا يكون ذلك إلا بأن تستأنف تلقي حقائقه الإيمانية مرة أخرى، وتتغذَّى من روحه العظيم، تخلقا وتحققا، ثم تشتغل ببلاغ ما تلقته بالمنهج نفسه -أعني تخلقا وتحققا- أي بتلقين ذلك للآخرين عبر مجالس القرآن، التي هي المحاضن التربوية للفطرية، وأحد أهم مسالكها الإصلاحية.
ذلك أنه قد تقرر بنصوص القرآن وبما تواتر من سنة النبي العدنان أن الصلاح والإصلاح لا يكونان -على الوجه الحقيقي- إلا عبر مسلك القرآن! وأن من لم يكابد القرآن لم يذق حلاوة الإيمان! وأن من لم يعان وقع الفرقان على الوجدان لم يجد أشواق الجِنَان، ولا رَهَبَ النيران! وأن من حُرِمَ ذلك كله لم يذق معنى محبة الرحمن!
فأي دعوة تكون أم أي داعية، إذا كان فؤاده فارغا من هذه الحقائق والمعاني؟ شاردا عنها في تيه شقشقات الكلام، ومهاترات الجدل والخصام؟ ولا هو كان ممن اتخذ لنفسه مسلكا إلى الله عبر ربانية القرآن؟ وكيف لا؟ وها الرحمن جل علاه يبين الطريق للعباد – بما لا يدع مجالا للشك ولا للتردد – بقوله الواضح الصريح: {وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}(آل عمران: 79). {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِيَ اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} (الفرقان:30). وختم سورة النمل ببيان هذا المنهج الرباني الفريد، فقال على لسان رسوله : {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنَ اَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنَ اَكُونَ مِنَ الـمسْلِمِينَ. وأَنَ اَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلِ اِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ. وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمُ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(النمل: 91- 93).
التحقق والتخلق
والمصطلح المفتاح لمنهج التعامل مع القرآن، في مدرسة “الفطرية”، هو مصطلح: “التلقي”. لأن التربية القرآنية في مجالس القرآن لا تكون إلا بتلقي الرسالات الكامنة في الآيات! تلك الرسالات هي التي تتضمن حقائق الإيمان المقصودة بالتخلق والتحقق، في طريق الدعوة والسير إلى الله صلاحا وإصلاحا.
فمن قرأ سورة الإخلاص ولم يتخلق بالإخلاص، ولا هو تحقق به، فمعناه أنه لم يَتَلَقَّ سورةَ الإخلاص! ولا هو ممن تلاها حقّاً، ولو ظل يرددها آلاف المرات! {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُومِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ!}(البقرة: 121). وكذلك من قرأ المعوذتين ولم يتحقق بما فيهما من معان، ولا نزلت عليه سكينتهما، فإنه لم يتلق شيئا من السورتين! ومن قرأ سورة الفاتحة ولم يجد نفسه قد تخلق بالحمد، ثم اندرج بمدارج “إياك نعبد وإياك نستعين”؛ طلباً لهداية الرضى والتثبيت، فإنه لم يتلق الفاتحة بعد!
وإنما يكون “التلقي للقرآن” باستقبال القلب للوحي على سبيل الذِّكْرِ. وبيان ذلك هو كما يلي:
كثيرون هم أولئك الناس الذين يتلون القرآن اليوم، أو يستمعون له على الإجمال، على أشكال وأغراض مختلفة. ولكن قليل منهم من (يَتَلَقَّى) القرآن!
وإنما يؤتي القرآنُ ثمارَ الذكر حقيقةً لمن تَلَقَّاهُ! وإنما كان رسول الله يَتَلَقَّى القرآن من ربه. قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}(النمل:6). ولا يزال القرآن معروضا لمن يتلقاه، وليس لمن يتلوه ظاهرا فقط!
وأما تلقي القرآن: فهو استقبال القلب للوحي. إما على سبيل النبوءة، كما هو الشأن بالنسبة للرسول . على نحو ما سبق في قول الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ! مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}( النمل:6)، ونحو قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ}(القصص:86)، حيث ألقى الله عليه القرآن بهذا المعنى، كما فسره الراغب الأصفهاني من قوله تعالى: {إنا سَنُلْقِي عليك قولا ثقيلا}(المزمل:5) قال رحمه الله: (إشارة إلى ما حُمِّلَ من النبو ة والوحي!)(2).
وإما أن يكون (تلقي القرآن) بمعنى: استقبال القلب للوحي، على سبيل الذِّكْرِ. وهو عام في كل مؤمن أخذ القرآن بمنهج التلقي. فذلك المنهج هو الذي به تنبعث حياة القلوب. لأنها تتلقى آنئذ القرآن (روحا) من لدن الرحمن. قال تعالى: : {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا. مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الْإِيمَانُ. وَلَكِن جَعَلنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا. وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الشورى:52-53).
و(تلقي القرآن) بمعنى استقبال القلب للوحي، على سبيل الذِّكْرِ؛ إنما يكون بحيث يتعامل معه العبد بصورة شهودية، أي كأنما هو يشهد تنـزله الآن غضا طريا! فيتدبره آيةً، آيةً، باعتبار أنها تنـزلت عليه لتخاطبه هو في نفسه ووجدانه، فتبعث قلبه حيا في عصره وزمانه! ومن هنا وصف الله تعالى العبد الذي (يتلقى القرآن) بهذا المعنى؛ بأنه (يُلْقِي) له السمع بشهود القلب! قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}(ق:37). ذلك هو الذاكر بالقرآن حقا، الذي يُحَصِّلُ ثمرة الذكرى ولا يكون من الغافلين.
معنى التلقي
فأن تتلقى القرآن: معناه إذن؛ أن تصغي إلى الله يخاطبك! فتبصر حقائق الآيات وهي تتنـزل على قلبك روحا. وبهذا تقع اليقظة والتذكر، ثم يقع التَّخَلُّقُ بالقرآن، على نحو ما هو مذكور في وصف رسول الله ، من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، لما سئلت عن خُلُقِه ؛ فقالت: >كان خُلُقُهُ القرآنَ!<(3).
وأنْ تتلقى القرآن: معناه أيضا أن تتنـزل الآيات على موطن الحاجة من قلبك ووجدانك! كما يتنـزل الدواء على موطن الداء! فآدم عليه السلام لما أكل هو وزوجه من الشجرة المحرمة؛ ظهرت عليهما أمارة الغواية؛ بسقوط لباس الجنة عن جسديهما! فظل آدم عليه السلام كئيبا حزينا. قال تعالى: {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا! وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنَّةِ. وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}(طه:121). ولم يزل كذلك حتى (تلقَّى) كلمات التوبة من ربه فتاب عليه؛ فكانت له بذلك شفاءً! وذلك قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم}(البقرة:37). فهو \ كان في حاجة شديدة إلى شيء يفعله أو يقوله؛ ليتوب إلى الله، لكنه لا يدري كيف؟ فأنزل الله عليه -برحمته تعالى- كلمات التوبة؛ ليتوب بها هو وزوجه إلى الله تعالى. وهي -كما يقول المفسرون- قوله تعالى: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الأعراف:23) فبمجرد ما أن تنـزلت الآيات على موطن الحاجة من قلبه؛ حتى نطقت بها الجوارح والأشواق؛ فكانت له التوبة خُلُقاً إلى يوم القيامة! وكان آدم \ بهذا أول التوابين! وذلك بأخذه كلمات التوبة من ربه على سبيل (التلقي): (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ)!
فعندما تقرأ القرآن إذن؛ استمع وأنصت! فإن الله جل جلاله يخاطبك أنت! وادخل بوجدانك مشاهد القرآن، فإنك في ضيافة الرحمن! هناك حيث ترى من المشاهد ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر!(4). وبذلك تخرج إلى الناس في هذا العصر العصيب -بكل تعقيداته وظلماته- تحمل رسالة القرآن! كما حمل موسى \ من قبل عصاه، فتُلْقِي آيَاتِهَا كلمةً كلمةً على سِحْرِ الشهوات والشبهات، وعلى سائر الأهواء والأدواء! {فَإِذَا هِيَ تَلَقَّفُ مَا يَافِكُونَ. فَوَقَعَ الْحقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ. فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ! وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ. قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ!} (الأعراف: 117- 121).
نعم، ذلك هو فعل القرآن في هذا الزمان، على النفس وعلى المجتمع، كما كان في كل زمان، لكن لمن تلاه حق تلاوته.
بهذا المنهج إذن تتلقى عزيمتُك رسالةَ الكلمات، فتشعر بمعاناتها، ويتلقى قلبُك هدايةَ الآيات، فيشعر بمكابداتها، وتجد نفسَكَ أنك تترقى حقيقة بمدارج الإيمان، تشاهد ذلك وتبصره! فلا يمضي عليها إلا وقت وجيز حتى تراها -بإذن الله- قد تحولت إلى منـزلة أعلى من منازل الصلاح والإصلاح؛ فتتحول المعاناة إلى لذة، وتصير المكابدة إلى حلاوة! ويصير الخوف إلى أمان. وإنما الموفَّق من وفقه الله.
تلك هي الفطرية، وذلك هو منهاجها لمن شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً!
د. فريد الأنصاري