لقد راعني وأنا أشاهد ما يحدث على المستوى الاجتماعي من انتكاسة وصل إليها واقعنا المرير من مشاهد مؤلمة فيما يرتبط بسؤال القيم خاصة، إذ نجد سؤال القيم غائبا تماما، بل مغيب عن الساحة الثقافية والاجتماعية، وهو ما يفسر حالة التردي التي نعيشها في حاضرنا في زمن سرعة الضوء وعصر المعلوميات وثورة عالم الرقميات، وهذا ما يجعلني أتساءل عن تلك الفجوة أو الهوة بين هذه التطورات المذهلة في هذا المجال العلمي وبين الانحدار السحيق في مجال فلسفة القيم والمبادئ الأخلاقية، وهنا يبدو للناظر البسيط شعاع من الجواب على هذا السؤال الإشكالي، والذي يدور فحواه حول: لماذا تقدم غيرنا ماديا وتأخرنا في جميع المستويات؟؟
إننا في ظل هذا الوضع المأزوم نكتفي بالبكاء على الأطلال والافتخار بأمجاد القدماء من سلفنا دون أن نقدم شيئا أو أن نفعل شيئا، وفي نفس الوقت نلوم أنفسنا عن هذا التخلف الذي وصلنا إليه، ونلوم أنفسنا عن انقطاع قيم التراحم والتواصل والتكافل التي كانت معروفة وسائدة وسط المجتمع المغربي منذ سبعينيات القرن الماضي على الأقل، بحيث أصبح كل منا منغلقا على نفسه كما لو أن كل واحد منحدر من كوكب، وبالتالي لكل قيمه وعاداته وأخلاقه، وبهذا يصدق علينا قول رسول الله ، فيما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه قال: «إن الله يبغض الفحش والتفحش، والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى يخون الأمين ويؤتمن الخائن، حتى يظهر الفحش والتفحش وقطيعة الأرحام وسوء الجوار». فرسول الله قد أطلعه الله على الغيب، فهو يتحدث إلينا من مشكاة النبوة كأنه معنا في زماننا، ويتحدث إلينا، لكنه لا يكتفي بتشخيص الأحداث، بل يقدم العلاج لأمراض الأمة على المستويات كلها.
ومن الأمثلة على تغير القيم وانقلاب دلالاتها ما حصل منذ فجر التاريخ في زمن نبي الله لوط عليه وعلى رسولنا الصلاة والسلام في قوله تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ(الأعراف: 80-84)، يقول سيد قطب في ظلاله وهو يصف هذا المشهد المؤثر في حق قوم لوط، متعجبا من القيم السائدة آنذاك في ذلك الزمان الغابر، حيث البشرية في بداياتها: “يا عجبا! أو من يتطهر يخرج من القرية إخراجا، ليبقى فيها الملوثون المدنسون؟! ولكن لماذا العجب؟ وماذا تصنع الجاهلية الحديثة؟ أليست تطارد الذين يتطهرون، فلا ينغمسون في الوحل الذي تنغمس فيه مجتمعات الجاهلية- وتسميه تقدما وتحطيما للأغلال عن المرأة وغير المرأة- أليست تطاردهم في أرزاقهم وأنفسهم وأموالهم وأفكارهم وتصوراتهم كذلك ولا تطيق أن تراهم يتطهرون؛ لأنها لا ترحب إلا بالملوثين الدنسين القذرين؟! إنه منطق الجاهلية في كل حين!!”، فعلا إنه منطق الجاهلية يتكرر في ثوب جديد، وشخوص مختلفة عبر مدار الزمن، وأحداث لا حصر لها، كلها تدور حول الدفاع عن قيم الانحدار والانهيار والمسخ الاجتماعي والثقافي، وفي ضوء هذه المعطيات نجد التشخيص القرآني لقصة لوط في أسلوب بياني تشخيصي يفيد تقريع أسماع هذه العينة من الناس التي أرادت أن تعتدي على فطرة الله، وتمسخ القيم المبثوثة فيها، وذلك في قوله تعالى: أتاتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين، بمعنى أن هذا السلوك الشاذ في صفوف قوم لوط يعتبر سابقة في تاريخ البشرية، كما يؤشر على التغير الذي بدأ يعرفه الإنسان على مستوى قيمه الفطرية وما ترتب على ذلك من إرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة بالناس على مثل هذه الأفعال الشنيعة، وهنا تحدث القرآن المجيد عن فعل له صلة لصيقة بآدمية الإنسان، أعني فعل التزاوج، فإذا كان هذا الفعل من فطرة الإنسان عموما بحكم طبيعة الخلقة التي خلق الله عليها بني آدم، وما دام الأمر كذلك فإن الله تعالى أودع في الذكر الميل إلى الأنثى، والعكس كذلك لتحقيق هذه السنة الجارية في الخلق، لكن أن يتم العدول عنها إلى ممارسة الفعل الشاذ منها، وذلك بتحقيق التناكح بين الذكرين أو الأنثيين فهذا مما لا تقبله فطرة الإنسان السوي بغض النظر عن معتقده ولونه وثقافته.. والعجيب الغريب في هذا السلوك هو أن القرآن المجيد سجل بداياته مع قوم لوط مما يفهم منه أن الفطرة البشرية تعرضت لهجوم شرس في غابر الأزمان، حيث البساطة في الوسائل المادية والاجتماعية، أما من الناحية الأخلاقية والقيمية فيمكن القول إن الجاهلية واحدة بكل مقوماتها، أما عامل الزمن والمكان فلا اعتبار له هنا؟؟، وجاء التعقيب القرآني خاتما نصيحة لوط لقومه قائلا: بل أنتم قوم مسرفون، تجاوزتم حدود الفطرة السوية، معتدون عليها باقتراف هذا السلوك الشنيع الذي يصيب الإنسان بالقرف والاشمئزاز عند سماعه، فما بالك بارتكابه وسط قوم ما، وجاء التعبير بالإسراف للدلالة على أن الله تعالى أتاح لهم الطيبات في ما يرتبط بقضية التزاوج، ومنحهم المباحات المتاحة لتلبية رغباتهم الجنسية بشكل شرعي وموافق للفطرة الآدمية، لكن مسخ الفطرة وتجاوز حدودها جعلهم يسرفون في هذه المسألة، بمعنى أن المباح من تحقيق التزاوج بالأنثى متحقق ومتوفر في قوم لوط، لكنهم أسروا على الإسراف وتجاوز الفعل الطبيعي والسلوك السوي إلى السقوط في مهاوي الفعل الشاذ على مستوى الفطرة والاجتماع، والملاحظ في السلوك أنه انتشر بكثرة في قوم لوط حتى أصبح متجذرا ضاربا بجذوره وسط أولئك القوم لدرجة صعب تغييره من أصحاب الفطرة السليمة، وهذا ما جعل رحمة الله بهؤلاء القوم عسى أن يتراجعوا ويتوبوا من هذا الفعل الشنيع، فأرسل إليهم نبي الله لوطاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، قومه بلغت بهم الجرأة أن أحرجوه في أهله وذويه. إذن يمكن القول إن هذه الممارسة الشاذة صارت ظاهرة اجتماعية عادية في زمن قوم لوط مما ترتب عليه أنه أصبح سلوكا عاديا مقبولا في الممارسة الاجتماعية والثقافية في ذلك الزمن، وأن الذي يحاربه أصبح “شاذا ومنكرا”، وهذا ما أقره القرآن وهو يتحدث عن تلك الفئة التي ظلت متمسكة بفطرتها السوية في قوله تعالى: أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون، فيا للعجب؟؟ انظر لفئة استمرأت الخبث كيف لا تطيق الطيبات، وتعجب من فئة عاشت في الوحل والموبقات كيف لا تقبل المباحات، وهنا التعبير القرآني جاء واضحا وفاضحا سلوك هؤلاء الشواذ في دفاعهم عن الباطل وضرورة التطبيع مع الفساد في قوله تعالى: أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون، فهؤلاء يعترفون أن فئة من قوم لوط لا زالت على طهارة القلب، وصفاء السريرة، ولكنهم في ظل اعترافهم فهم لا يطيقون أن تظل الطهارة حاضرة ومنتشرة بينهم، وهذا أعظم بيان دل على انتكاسة الفطرة استدعى تدخل المشيئة الإلهية لإنقاذ فطرة الله التي فطر الناس عليها.
وقد ختمت القصة أحوال قوم لوط بمأساة، وطوت سيرتهم إلى يوم الدين، نظرا للانهيار الذي حصل على مستوى القيم التي تحفظ كرامة الإنسان وشرفه وعرضه، والقصد من ذلك ألا يتكرر هذا النموذج الشاذ الذي مر في تاريخ البشرية، إلا أن يشاء الله رب العالمين. وقد جاء الختام سريعا بلا تفصيل ولا تطويل، قال تعالى: فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِين (الأعراف: 84)، قال صاحب الظلال معلقا: “إنها النجاة لمن تهددهم العصاة. كما أنها هي الفصل بين القوم على أساس العقيدة والمنهج. فامرأته -وهي ألصق الناس به- لم تنج من الهلاك؛ لأن صلتها كانت بالغابرين المهلكين من قومه في المنهج والاعتقاد. وقد أمطروا مطراً مهلكاً مع ما صاحبه من عواصف.. ترى كان هذا المطر المغرق، والماء الدافق، لتطهير الأرض من ذلك الدنس الذي كانوا فيه، والوحل الذي عاشوا وماتوا فيه؟! على أية حال لقد طويت صفحة أخرى من صحائف المكذبين المجرمين!”.
محمد علواش