بَدَأْنَا في الحلقة 22 المحجَّة عدد 466 بالنوع الأول من مستويات مكونات الكلام في اللّغة العربية، وهو “كيفية الكتابة” أو المستوى الإملائي. وقد مَثَّلنا لهذا النوع بعدد من كلمات أحرف المعاني حين اتصالها أو انفصالها بغيرها من أحرف المباني أو المعاني، حيث لاَحَظْنَا أنَّ حذف الحرف الذي يتصل ببعضها أو إثباتَه يعد قيمة خلافية ينوع المعنى حسب إرادة المتكلم، والبعض الآخر منها يتميز باتصاله أو انفصاله بالحرف المضاف إليه. وقد لاَحَظْنَا أن بعض الآيات القرآنية تشملها بعض هذه الأحكام في طريقة الكتابة. وإن كان الأمر بهذا الخصوص في حاجة إلى شيء من المقارنة بين نوعيْ الكتابة في هذا المجال أي بين النص القرآني الخاص ونصوص اللغة العربية عموما. ذلك أن بعض رموز الكتابة في خط القرآن الكريم قد لا تخلو من دلالات معينة، ومما يؤكد هذا الاحتمال أن دلالات بعض الكلمات التي بقيت عالقة بالذهن منذ عهد الصّبى من منظومة تتحدث عن الكلمات المتضمنة لحرف الباء ذات دلالة سلبية، ونعني بالسلب هنا الجانب القدحي وذلك قوله:
والباء قل خبائث الألباب
كبائر الإثم مع الأسباب
حُسْبَاناً إِنْ نُصِبَ
ألفاظ بَاطِل وبَاخِعٌ رُبَع
فكل هذه الكلمات “خبائث” “كبائر الإثم” “باطل” لا يكتب مدها بالألف ليطلق عليها اسم ثابت؛ وإنما تكتب الكلمة متصلة هكذا “خبئث” ويشار إلى مد الصوت فيها بعلامة فوق الكلمة في محل مد الصوت بالألف ويطلق عليها اسم “محذوف”.
اقتطفنا تلك الأمثلة من أحرف المعاني التي مثلنا بها لشكل الكتابة الذي يؤثر في توجيه المعنى كبقية مكونات الكلام من كتاب أَدَب الكاتب لابن قتيبة تحت عنوان شامل سماه: “كتاب تقويم اليد”، ورتب تحت هذا العنوان ستة وأربعين باباً منها ما مَثََّلنا به. وعلى الرغم من أن كل هذه الأبواب لا تخلو من الفوائد فإِنَّ أهمها في هذا السياق هو باب أسماء يتفق لفظها وتختلف معانيها، وذلك لأن الكلمات المنضوية تحت هذا الباب تحتمل شكلين من الكتابة لكل شكل دلالته الخاصة تحددها إرادة المتكلم باللغة العربية الذي يعرف وظائف الكلمات، فيحدد لكل معنى شَكْلَ الكتابة الذي يناسبه. ونُصَنِّفُ أسماء هذا الباب المتقاربة في شكل الكتابة المختلفة المعاني لاختلافها في شكل كتابة حرف واحد، وفي عرض هذا النوع من الأسماء يقول ابن قتيبة تحت العنوان أعلاه:
“1 – هَوَى النَّفس مَقْصُورٌ بالياء، والهَوَاء الجَوُّ مَمْدُودٌ
2 – وَرَجَا البِئْرُ مقصور بالألف، والرَّجَاءُ من الطَّمَعِ ممدود.
3 – والصَّفَا الصَّخْر مقصور بالألف، والصَّفَاء من المَوَدَّة والشَّيء الصَّافِي ممدود.
4 – والفَتَى واحدُ الفِتيان مقصور بالياء، والفَتَاء من السِّن ممدود. قال الشاعر:
إذا عاش الفَتَى مائتين عاماً
فقد ذهب اللَّذَاذَة والفَتَاء.
5 – وسَنَا البَرْقِ مقصور بالألف، وسَنَاء المجَد ممدود.
6 – ولِوَى الرَّمل مقصور بالياء، ولِوَاُء الأمير ممدود.
7 – والثَّرى التُّراب النَّدِيُّ مقصور بالياء، والثَّرَاءُ الغِنَى ممدود.
8 – والغِنى من السَّعَة مقصور بالألف، والغِنَاءُ من الصَّوت ممدود.
9 – والخَلَا رَطْبُ الحَْشِيش مقصور بالألف، والخَلَاءُ من الخَلْوَةِ ممدود.
10 – والعَشَا في العين مقصور بالألف، والعَشَاء والغِذَاءُ ممدودان.
11 – والعَرَا الفِنَاء والسَّاحَة مقصور بالألف، والعَرَاءُ المَكَانُ الخَالِي ممدود.
12 – والحَفَى حَفَى القدم والحَافِر إذا رَقَّا مقصور بالياء، والحَفَاءُ مَشْيُ الرَّجُل حَافِيّاً بلا خُفّ ولا نَعْلٍ ممدود.
13 – والنَّقَا الرَّمل مقصور يُكتَب بالألف والياء؛ لأنَّه يقال في تَثْنِيَّتِه: نَقَوَان ونَقَيَان، والنقَاء من النَّظَافة ممدود.
14 – والحَيَا الغَيْثُ والِخصْب مقصور بالألف، والحَيَاء من النَّاقة ومن الِاستحياء ممدود.
15 – والصِّبَى من الصِّغَر مقصور بالياء، والصَّبَاء من الشَّوْقِ ممدود. وصَبَا الرِّيح مقصور بالألف.
16 – والمَلَا من الأرض مقصور بالألف، والمَلَاء من قولك غَنِيٌّ ملئ ممدود.
17 – والجَدَا من العطية مقصور بالألف، والجَدَاء (ممدود) الغَنَاءُ، تقول هو قليل الجَدَا عنّي ممدود.
18 – والعِدَى الأَعْدَاء مقصور بالياء، والعِدَاء الَمُوَالاة بين الشَّيئين ممدود”. (أدب الكاتب، ص 232).
تَعَمَّدْنَا كتابةَ كل أمثلة هذا الباب نظرا لما لكل واحد منها من خصوصية. فهي من النوع الذي لا يفيد فيه القياس بل لابد فيه من السماع. هذا بالإضافة إلى أنها في معظمها إن لم نقل كلها تعتبر من الكلمات الثابتة في متن المعجم العربي؛ لأنها تحمل دلالات لا يمكن الاستغناء عنها أو تجاوزها في مرحلة من مراحل حياة الإنسان العربي. وبخصوص هذه الأمثلة نسجل الملاحظات التالية مع التعقيب عليها بتعليق.
- لنا تحفظ بخصوص إدراج المؤلف مثالين ضمن هذه المجموعة من الأمثلة. أولهما: رقم 13 “النَّقَا” الذي يكتب بالألف والياء مقابل “النقاء”؛ لأنه في الحالة التي يكتب فيها بالألف يكون أقرب من “النَّقَاء” إن لم يكن مطابقا له، وثانيهما؛ أي ثاني التحفظين: يتعلق بالمثال رقم 15 “الصِّبَى” المقابل “للصَّبَاء”. ذلك أن الحركة قيمة خلافية؛ لأنها علامة إعراب بالمفهوم العام للإعراب الذي يعني البَيَان، إذ الملاحظ أن “الصِّبَى” مكسور حرف الصاد مقابل فتحها في “الصَّبَاء”، ولذا تعتبر الحركة علامة إعراب مميزة بين الاسمين قبل الحرف.
- أما بخصوص التعليق فإنَّ الأمر يتعلق بهذه الظاهرة التي يفرق فيها بين دلالتي كلمتين، تتَّفق كل أحرفها من حيث التلفظ بها وتختلف في شكل كتابة حرف واحد فقط هو الحرف الأخير، فما الذي يدعو إلى كتابة هذا الحرف بشكل دون سواه؟ لا شك أن إرادة المتكلم المتقن للُّغة حاضرة، واعتبار حضور المتعلِّم المُحْتَمَل مُعْتَبَرٌ أيضا عندما يُخَاطَبُ بعبارة تَتَضَمَّنُ أحد الأمثلة المذكورة أو ما يشبهها.
والملاحظ بخصوص هذه الأمثلة أن شكلَ الكتابة مُقَدَّم على النطق بالصَّوت، ولذا قال المؤلف في عنوان هذه الأمثلة: “يتفق لفظها”، ثمَّ أشار بالشطر الثاني من العنوان نفسه “وتختلف معانيها” إلى أن هذا الاختلاف يُفَسَّرُ بشكل الكتابة لا بغيره. ولذا أورد المؤلِّف كل مثال بشكل كتابته التي لها دلالة خاصة مقابل ما يطابقه في اللفظ ويختلف معه في كتابة حرف واحد بشكل مغاير يغير المعنى. وعليه يمكن اعتبار شكل كتابة الحرف المقابل لما يطابقه في اللفظ محورا في بنية الكلمة يوجه الدلالة المحتملة لمعنيين لمعنى دون سواه. وهذا ما يجعلنا نعتبر شكل الكتابة مستوىً خالصا في اللغة العربية ينبغي أن تُسْتَقْصَى أمثلته لتُدْرَسَ بالشَّكل المطلوب.
د. الحسين كنوان