الحديث في جانب اللغة، أمر يحتاط له المرء ويحذر؛ فاللغة وسيلة البيان والتفاهم والتخاطب، ولا بد لكل امرئ من امتلاكها -أيّاً كانت لغته-، وليس هذا موضع الحديث عن نشأة اللغة أهي توقيفية أم توفيقية؟ ولا موضع الحديث عن كيفية امتلاكها؛ أكتساب هي أم فطرة؟ فتلك أمور مختلف فيها، وقد صالت كتب اللغة فيها وجالت منذ السلف السابق، ولمن أراد الاطلاع والتبحر في هذا الأمر من حياة اللغة، فليَرِد كتب فقه اللغة.
ما أود الوقوف عليه في هذه العجالة، هو وَجَعُ اللغة، هذه اللغة التي كانت من الأهمية بمكان، حيث علّمها آدم لتكون وسيلة البيان بين بني البشر وعلّم آدم الأسماء كلها (البقرة: 31)، فاللغة -على هذا- مكون أساسي في حياة البشرية.
إن نظرة متفحصة في واقع اللغة –وحديثي عن العربية بشكل خاص- بين أبنائها في كل بلاد العُرب، ينبئ بأن وجع هذه اللغة، هو أبناؤها أنفسهم؛ لما يرى المرء من انهزام لغوي في داخلهم، يندى له الجبين، فلا تجلس في مجلس، عام أو خاص، إلا وتسمع تلك الرطانة السمجة، بكلمات غير عربية مستهلكة، يتسابقون في درجها على ألسنتهم، ظنّاً منهم أن ذلك مظهر حضاري، دالٌّ على التقدم والرقي، مثل غيرها من المنتجات الأجنبية تماماً، من “الماركات” العالمية، من ملابس وساعات ونظارات، وغيرها من المنتجات، يتابعها شبابنا ويتسابق إليها. في الوقت الذي نجد فيه، من غير العرب مَنْ يقدّر العربية، ويُدرك مكانتها يورد ممدوح خسارة في كتابه “قضايا لغوية معاصرة” (ص103)، أنَ الأديب الفرنسي “جول فيرن” كتب قصة من الخيال العلمي، مؤداها أنّ مجموعة من الباحثين المغامرين، حفروا نفقاً باتجاه مركز الأرض، ووصلوا إليه، وعندما أرادوا مغادرة المكان، كتبوا عبارة هناك، لتخلّد إنجازهم، فكتبوها بالعربية، وحين سُئل الأديب الفرنسي، عن سبب اختياره للعربية ليكتب بها العبارة،-اسمعوا يا أهل العربية، اسمعوا وعُوْا-، قال: لأنها لغة المستقبل!
نعم، إنها علامة التعجب، التعجب ليس لأن العربية لغة المستقبل –فهذا لا شك فيه عندنا-، إنما التعجب من أن يصدر هذا الكلام من أجنبي، عن هذه اللغة، التي كرمها الله فكانت لغة آخر الرسالات، لغة القرآن الكريم، نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين (الشعراء: 193-195)، في حين أن بني جلدتها منهم من يدعو إلى التخفف من الفصحى، واللجوء إلى العامية، بل العاميات، التي بتنا نخجل عند سماعها؛ لغةً للحديث في مدارسنا وجامعاتنا وإعلامنا، فبات أولئك مغلوباً على أمرهم، حتى كلماتهم مستهلكة.
إن نظرة فاحصة في تاريخ اللغة العربية في العصور الزاهرة، تعطينا صورة عن العربية كيف كانت سيدة لغات الدنيا، يوم كانت لغة العلم والحضارة والرقي في كل بقاع الأرض، حتى إن علماء المسلمين كانوا يترجمون كل ما يقع تحت أيديهم من مصادر المعرفة إلى اللغة العربية، فالعربية –كما يقول أحمد يونس الفقيه، في بحثه الموسوم بـ “لغة العالمية فوق لغة العولمة- (أنشأَت ثقافة كاملة، ولم تعد مجرد أداة للثقافة، فداخل الثقافة العربية حضور تراثي لأمم الإسلام والعروبة جميعاً، وبهذا تتعاظم أهميتها)، مما يجعلنا نقول في حق هذه اللغة الجليلة، بكل يقين وشيء من الألم الممزوج بالأمل: كنّا يوم كانت، وسنعود بإذن الله.
دة. تمام محمد السيد
أستاذ مساعد-الأردن