سبق القول أن من واجبات الوقت حماية عقول وقلوب شبابنا من خطر الموجة الإلحادية الجديدة الزاحفة عبر وسائل مختلفة والتي لقيت فراغا تسللت من خلاله، ولكي تحقق مواجهة هذا الإلحاد نجاحات وفاعلية لا بد أن تكون عبر منهجية تسير في إطارين متكاملين:
الأول: إطار البناء والوقاية وذلك بإحسان غرس العقيدة الإسلامية في النفوس،
والثاني: اتجاه العلاج والدفاع وذلك بتحقيق أصالة الدرس العقدي مع معاصرة خطابه ومناسبة مضمونه.
عقيدتنا بين الدرس والغرس
أستعير هذين اللفظين (الدرس – الغرس) من شيخنا العلامة الدكتور حسن الشافعي رئيس مجمع اللغة العربية وعضو هيئة كبار العلماء بمصر، وأعني بالدرس: عناية المختصين بدراسة علم العقيدة على وجوهها المختلفة النصية (من القرآن والسنة) أو العقلية (بالحجج المنطقية والمناهج الجدلية) ليتحقق هذا الفرض الكفائي في الأمة بوجود جماعة تكون المرجع في هذا العلم، غير أن الدرس بهذا المعنى النظري الجامع بين النصوص وأدوات الجدل والدفاع، لا يصح أن يمتد إلى أوسع من نطاق الباحثين وطلاب العلم، كما لا يكفي وحده في ترسيخ العقيدة وتحويلها إلى حياة، فكان من الضروري تحقيق “الغرس” وهو التحول بالعقيدة من الحالة النظرية إلى الحُلَّةِالعملية الحية المتحركة التي تتجلى في كافة تصرفات الفرد، وذلك هو المقصود الأعظم من الدرس العقدي، “والغرس”عبارة عن تربية إيمانية، وتزكية قلبية، وبناء نفسي وعلمي يدفع صاحبه إلى الخوف من الله ومحبته، ومراقبته والاستحياء منه، وتقديره حق قدره، وهذا لا يحتاج أكثر من العرض الواضح البسيط حسب طريقة القرآن والسنة في ذلك، وأما الدرس العقدي بتعقيداته النظرية ومناهجه العقلية ومسالكه المنطقية فنحتاجه في مقام الدفاع والجدال في مواجهة شبهات الخصوم، كما يمكن استعماله مع من تأثر بشبهات الخصوم، إن ناتج الغرس هو ما أشار إليه ابن خلدون فيما أسماه “الملكة الإيمانية” أو ملكة الإيمان التي أكد فيها معنى الاتصاف بحقائق الإيمان وذكر أن هناك علمين: علم يحصل بالمعرفة العقدية قبل الاتصاف بحقائقها، وعلم يحصل بعد الاتصاف بحقائقها وهو الأهم النافع.
الحاجة إلى المربين:
إن القائمين على الدرس العقدي قد شغلهم العلم والتنظير غالبا عن المقصد الأعلى للعقيدة وهو تحويلها إلى واقع حي، الأمر الذي يدعونا إلى القول إن التحول من الدرس إلى الغرس يحتاج إلى مربين صلحاء عايشوا معاني العقيدة بروحهم ووجدانهم، وتمثلوها في واقعهم لينقلوا روح العقيدة إلى قلوب أبناء الأمة عن قرب ومعايشة، وهنا أسوق هذا المثال لصورة من التربية والغرس العقدي:
أورد الغزالي في إحياء علوم الدين تلك القصة:
قال سهل بن عبدالله التستري: كنت وأنا ابن ثلاث سنين أقوم بالليل فأنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار فقال لي يوما: ألا تذكر الله الذي خلقك، فقلت: كيف أذكره؟ فقال: قل بقلبك عند تقلبك بثيابك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسانك، الله معي، الله ناظري، الله شاهدي، فقلت ذلك ليالي ثم أعلمته، فقال: قل ذلك في كل ليلة سبع مرات، فقلت ذلك ثم أعلمته، فقال: قل ذلك كل ليلة إحدى عشرة مرة، فقلته، فوقع في قلبي حلاوته، فلما كان بعد سنة، قال لي خالي: احفظ ما علمتك، ودم عليه إلى أن تدخل القبر فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة، فلم أزل على ذلك سنين، فوجدت لذلك حلاوة في سري، ثم قال لي خالي يوما: يا سهل من كان الله معه وناظرا إليه وشاهده، أيعصيه؟ إياك والمعصية، فكنت أخلو بنفسي فبعثوا بي إلى المكتب، فقلت إني لأخشى أن يتفرق علي همي، ولكن شارطوا المعلم أني أذهب إليه ساعة فأتعلم ثم أرجع، فمضيت إلى الكُتّاب، فتعلمت القرآن وحفظته وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين، وكنت أصوم الدهر وقوتي من خبز الشعير اثنتي عشرة سنة.
إن مثل هذه المنهجية في غرس العقيدة تفتقدها الأمة في جانبها التربوي والعملي.
وفي التحصين وقاية من الشر
يجب أن نحصن شبابنا بجملة من القواعد والموازين الشرعية والعقلية التي يقدرون بها على مواجهة أغاليط الملحدين، من هذه القواعد:
1 – اليقين لا يزول بالشك
وهي قاعدة شرعية جليلة لها أصولها من نصوص الشرع، وليست قاصرة في تطبيقها على الجانب العبادي بل تعمل في كافة جوانب الحياة ومنها الجانب العقدي، ونريد بها في سياقنا هنا أن المؤمن لديه يقين عقدي مدعوم بالأدلة ترسَّخ لديه بوسائل وفي مراحل مختلفة، وكل ما يأتيه بعد ذلك مما يخالف عقيدته ويشككه فيها إنما هو شبهات وشكوك لا ينبغي أن تزيل يقينه، ومهما حاول الملحد أن يسوق من قضايا وحجج ضد العقيدة والإيمان فلا تعدو أن تكون أباطيل لا أصل لها وشكوك لا تقوم على قاعدة عقلية ولا علمية ولا شرعية، فعلى المسلم أن لا يزيل يقينه بمجرد الشك والشبهة، وعلى أهل العلم والتربية والتوجيه أن يشيعوا هذه القاعدة ويشرحوها مع بيان جوانبها التطبيقية في المجال العقدي، فقد وجدنا بعض الشباب يهتز يقينه بمجرد وصول بعض الشبهات إلى عقله، والسبب في ذلك جهله بمثل هذه القواعد الكبرى الضابطة للتفكير والعمل.
2 – العجز عن رد الشبهات لا يعني صحتها
عندما تعترض الشبهة بعض الناس فيعجز عن ردها لضعف العلم أو لعدم التخصص أو لقوة سبكها وصياغتها فربما نالت من تصديقه وإيمانه، وهذا مسلك خاطئ، فمعلوم أن المرء لا يعلم كل شيء، فكلنا يعلم أشياء ويجهل أخرى، وضعف المرء وعجزه عن هدم شبه ما ودحضها لا يعني أبدا صحتها ولا يبرر قبولها، ولذا أمر الله تعالى بالرد إلى أهل العلم فقال سبحانه: فاسألوا اهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
وهنا يجب كذلك على أهل العلم والمربين ترسيخ هذه القواعد والمعايير المنهجية في التفكير لضبط التعامل مع الأفكار، وسنتابع في المقال القادم بقية القواعد والموازين.
د. أحمد زايد