يعيش العالم اليوم على إيقاعات سريعة جدا نتيجة أخطاء حضارية وأزمة عالمية تاريخية في تدبير مشكلات البيئة. وكم من الهزات الخطيرة مرت بالإنسانية: احتلالات وحروب عالمية وإقليمية ومجاعات وهجرات وتهجيرات واستنزاف خيرات العالم وثرواته النباتية والحيوانية والمادية وما إلى ذلك.
غير أن التوجيه الإعلامي لم يكن في مستوى خطورة الحدث، إلى أن بدأت الصيحات والنذر تتعالى بعد تفاقم مشكلات البيئة الطبيعية وما أصبح يهددها من مخاطر التلوث، حيث طفق الجميع يشعر بأن المخاطر تشمل الطبيعة والإنسان.
وهنا أيضا بدأ الحديث عن التلوث ومخاطره التي وصلت إلى حد تهديد كوكب الأرض بالاحتباس الحراري وينذر بتغيرات مناخية كبيرة وخطيرة.
لكن العقلاء وذوي البصيرة النافذة يرون أن الإنسانية لم تعانِ من التلوث الصناعي والاحتباس الحراري وآثارهما إلا بعد معاناة من أنواع أخرى من التلوث أكثر خطرا:
- إن أمم الأرض وشعوبها تعاني من تلوث أخلاقي سببه فساد التدين، وفساد الاعتقاد في الله تعالى حيث أورث تلوثا فكريا تجلى في فوضى المرجعيات والتعصب المذهبي المقيت من غير قدرة على الحوار المقنع، ولا نية إلا نية التقوقع على الذات وتعنيف المخالف وتشويهه لمجرد الخلاف، الأمر الذي انتهى بالبشرية في السنين الأخيرة -وفي العالم الإسلامي خصوصا- إلى احتباس ديني خانق حيث سوق الإعلام والتوجهات المعادية للدين صورة سلبية عن الإسلام والمسلمين، وغدا التوجه الرئيس للسياسات العالمية هو الإيقاع بالمسلمين في جرائم الإرهاب لاتخاذها ذريعة لمزيد من التطويق والإدانة.
- كما عانت البشرية طويلا من تلوث الاقتصاد العالمي بالمال الحرام القائم على نهب ثروات الشعوب، ونهب خيرات الأرض عن طريق الاستعمار وتدخل الأقوياء في نهب ثروات الفقراء والمستضعفين، فأدى ذلك إلى احتباس حراري خطير في العلاقات الدولية وفي العلاقات الاجتماعية بين الأقوياء والضعفاء.
- ولا يخفى أيضا ما تعانيه الشعوب من تلوث سياسي أفضى إلى احتباس سياسي في كثير من مناطق العالم، جعل كثيرا منها أشد التهابا وأكثر اشتعالا، فقدت بسببه كثير من شعوب الأرض حقها الطبيعي والمشروع في العيش الآمن وفي الكرامة والتعايش، وما ذلك إلا بسبب تغليب المصالح الذاتية للأقوياء وتلوث بيئة القرار السياسي الدولي بنزعات التسلط والقوة وغياب العدل والرحمة.
- وبسبب أنواع التلوث السابقة تلوثت البيئة الأخلاقية تلوثا لم يسبق للبشرية أن عرفت اجتماع كل أنواعه وبلاياه إلا في هذا العصر، فبدأنا نشاهد فعلا احتباسا أخلاقيا أفرز “تسونامي” التفسخ الأخلاقي والأمراض القاتلة، ففسدت البيئات الاجتماعية والأسرية بجرائم أفقدت الإنسان الأمان على الضروريات الخمس بله ما دونها.
وبناء عليه فالبشرية اليوم في حاجة إلى تصحيحين عاجلين وشاملين:
أولهما: تصحيح مفهوم البيئة تصحيحا يجعل منه مفهوما شاملا لكل أنواع البيئة الطبيعية والبشرية وما يتعلق بهما من أنواع جزئية للبيئات.
ثانيهما: تصحيح المعالجات الجزئية للمشكلات البيئية إلى معالجة شمولية لا تقتصر على الأبعاد القانونية والأمنية، بقدر ما تضيف إليها المعالجات الدينية والتربوية والفكرية التي يسهم فيها كل أبناء الأمة وقطاعاتها ومؤسساتها.
وإن العالم اليوم لفي حاجة ماسة إلى الاستفادة من التوجيهات والتشريعات التي جاء بها الإسلام، وإن الأمة الإسلامية اليوم لفي أمس الحاجة إلى إجادة وإحسان عرض ما منحها الله تعالى من أمانة الدين: تعلما وتعليما، تخلقا به ودعوة إليه.
وإن مشكلات البشرية اليوم في جميع المجالات المادية والمعنوية، الطبيعية والإنسانية لا تجد حلولها السليمة والآمنة إلا في دين الله تعالى الذي أنزله على سيدنا محمد ، وإن تراث الأمة الإسلامية الممتد في أكبر مساحة زمنية ومكانية من الكرة الأرضية ليملك ثروة كبيرة من الإمكانات والاجتهادات في حلول مشكلات البيئة بكل أنواعها.
فقد جعل الإسلام الكون وما فيه من خيرات مسخرا للإنسان، وجعله أمانة في يد الإنسان، ومستخلفا فيه وليس سيدا ولا مالكا. قال تعالى: ألم تروا ان الله سخر لكم ما في السماوات وما في الارض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (لقمان: 20) لذلك فلا يجوز التصرف في هذا الملك (الطبيعة المادية) وفي البيئة الإنسانية إلا وفق الموازين الربانية والهدايات القرآنية، القائمة على الدعوة إلى العدل في كل شيء والإحسان في كل عمل لأن الكون وما فيه من مخلوقات وخيرات ما هو إلا مسجد كبير لعبادة الله تعالى وتسبيحه اختيارا في حق الإنسان كما تسبحه كل الخلائق اضطرارا، وإن الله تعالى أناط الخير ومفاتيح الرزق بقيام الإنسان بالعدل والإحسان والتسبيح. قال تعالى: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض (الأعراف: 96)، ويقول جل وعلا أيضا: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة (النحل: 97).
وفي مجال الاجتماع البشري وجه القرآن الكريم الإنسان إلى إقامته على العدل والرحمة والإحسان فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (النحل: 90)