الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره… أما بعد:
عباد الله؛ اعلموا أن الله خلق الإنسان مطبوعًا على الافتقار إلى مخالطة جنسه، راغبًا في مصاحبة من توافق مع عقله ونفسه. فجاءت شريعة رب العالمين هادية للإنسان إلى سبيل اختيار من يصلح للمخالطة والمصاحبة، فحثت على صحبة الأخيار، ونهت عن صحبة أهل المعاصي والأشرار، فقد جاء عن النبي المختار : «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل» (رواه أحمد في مسنده (8065)، وسنده لا بأس به).
أيها المؤمنون إذا كان دين المرء يحدده الصديق، كما جاء في الحديث، فكيف نستهين بالصداقة والصديق؟
لقد تبين من الواقع المعيش أن معظم الشباب اختاروا طريقة عيشهم ونوع لباسهم وشكل قص شعرهم من خلال أصدقائهم، بل إننا نجد الواحد منهم يلبس ما لا يحب ويأكل ما لا يشتهيه فقط لمسايرة الموضى التي يعيش فيها أصدقاؤه، كما أن كثيرا من المثقفين اختاروا حياة الكفر والإلحاد، والاستهزاء بالدين والمقدسات ليس عن قناعة واختيار إنما إرضاء لمجموعاتهم وصحبتهم، وحتى المقتنع منهم ما أقنعه إلا خليله وصديقه.
فها هو عقبة بن أبي معيط في زمن الرسول يختار دين الكفر بسبب صديقه أبي بن خلف.
فقد كان “أُبي بن خلف” و”عقبة بن أبي معيط”، صديقين متصافيين، وكانا من أكثر الناس إيذاءً لرسول الله . وفي يوم، أراد عقبة بن أبي معيط أن يجلس إلى رسول الله بين الصحابة، ليسمع منه وينظر، ولا يزال عقبة يجلس في مجالس النفحات النبوية، حتى أوشك على الدخول في الإسلام، وظن الناس أن بشاشة الإيمان في طريقها إلى قلب “عقبة”؛ فتكسب الدعوة قائدًا من قادات مكة.
وترامت الأخبار إلى مسامع صديق العُمر”أُبي”، فأتى “عقبة” فقال له في حسم وحزم:
“ألم يبلغني أنك جالست محمدًا وسمعتَ منه؟! وجهي من وجهك حرام أن أكلمك (واستغلظ من اليمين) إن أنت جلستَ إليه أو سمعتَ منه، أو لم تأته فتتفل في وجهه” (ابن هشام 1/361).
فغرق “عقبة” لحظات سريعة في صراع نفسي، بين طريق محمد وطريق أُبي بن خلف. وكان لزامًا عليه الاختيار، إما الإسلام ويخسر الصديق، وإما الصديق ويخسر الإسلام، ولكن شيطان عقبة قد أرداه خسيرًا خسيئاً، فذهب إلى حضرة رسول الله بوجه حديد وبقلب عتيد، وخُلق عنيد، ونفس خائبة مهزومة أمام سلطان الصداقة النكدة، فبزق عدو الله في أكرم وجه سجد لله، وأطهر وجه طلعت عليه الشمس في تاريخها قاطبة، وزاد الفاجر في جرمه، فسب رسول الله سبًا شنيعًا، في مجلس الطهر والإيمان بين ظهراني المؤمنين المستضعفين.
ولما جُرحت مشاعر النبي الكريم؛ إثر هذا الموقف المحُرج جدًا، والإهانة الوقحة، من رجل يعده بعض الناس من جلساء محمد، أراد الله أن يطيب بوجدان الرسول المكسورِ، وأن يمسح على جراحات نفسه بيد حانية، مع كلمات مواسية، فيجلو القلب المكلوم، فتزول آثار الألفاظ النابية والأفعال الجارحة، فقال الله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً(الفرقان: 26-28). (انظر تفاصيل القصة في السيرة الحلبية 2/374).
وفي مقابل هذا نجد كثيرا من الناس كانت الأهواء والشهوات قد أخذت بهم إلى أعماق الضلال والطغيان، فما أن تعرفوا على بعض الصالحين الأخيار إلا وانقلبت حياتهم إلى نور الهداية والإيمان، فأصبحوا على دربهم ودينهم، فها هو الصحابي الجليل أبو بكر الصديق يأتي بخمسة من أصحابه مباشرة بعد دخوله في الإسلام فينتقلون من دين الأجداد والأسلاف إلى دين صديقهم وخليلهم، فيسلمون بين يدي النبي ، فأصبحوا من العشرة المبشرين بالجنة، وهم: عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم أجمعين.
وفي هذا يقول عدي بن زيدٍ:
عن المرءِ لا تسأَلْ، وسَلْ عن قرينه
فكلُّ قرينٍ بالمقـــارن يقتــدي
إذا كنتَ في قومٍ فصاحِبْ خيارهم
ولا تصحَبِ الأردى؛ فتردى مع الرَّدِي
(أدب الدنيا والدين للماوردي ص 205).
وقال علي بن أبي طالب :
فلا تصحب أخا الجهل وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى حليمــــــا حين آخاه
يقاس المرء بالمرء إذا ما المرء ما شاه
وللشيء من الشيء مقاييــس وأشباه.
عباد الله فإياكم ومصاحبة الأشرار فيسرقوا دينكم ويدمروا أخلاقكم، وعليكم بالأخيار ومجالس الصالحين لتتزودوا منهم في دنياكم وأخراكم، وقد قال رسول الله : «مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك وكير الحداد، لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه أو تجد ريحه. وكير الحداد يحرق بدنك أو ثوبك أو تجد منه ريحا خبيثة» (أخرجه البخاري في صحيحه: 2/ 741، برقم: 1995، ومسلم في صحيحه: 4/ 2026، برقم: 2628).
فاللهم اجعلنا ممن يمتثل أمرك ويجالس أولياءك، ويوالي من ولاك ويعادي من عاداك برحمتك يا أرحم الراحمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أما بعد:
فيا عباد الله: إن الشيطان لابن آدم بالمرصاد، وإن أعوانه من الإنس والجن مجندون لغواية الإنسان، فيعملون على ذلك ما كان بالإمكان، وإن من أعظم وسائلهم في ذلك إنشاء مجموعات للشباب، سواء في الواقع باسم النوادي أو ملاهي الوئام، أو في وسائل الإعلام، باسم التواصل الاجتماعي في الفايسبوك أو الواتساب، تحت مسميات تجذب العقول والأفهام، لتصنع عقول شبابنا على أعينهم وتكون تحت رعايتهم.
فعلى كل غيور على دينه ومجتمعه أن يسعى إلى تكثيف الجهود لتكوين البيئة الصالحة التي تكون ملجأ المؤمنين والمؤمنات سواء في الواقع أو عبر وسائل الاتصال، فكم من كافر أو ضال اهتدى بسبب أصدقائه في الإنترنيت عبر المواقع الدعوية التي يسهر عليها عباد الله الصالحين.
أيها المؤمنون إذا أردتم أن تعرفوا صفات الصديق الذي أمرنا ربنا بملازمته، وصفات الذي نهانا الله عن صحبته؛ فاسمعوا إلى وصية الله لنبيه وسائر أمته حيث قال في محكم التنزيل: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾ (الكهف: 28).
يقول ابن كثير رحمه الله: “أي اجلس مع الذين يذكرون الله ويهللونه ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه ويسألونه بكرة وعشيا من عباد الله سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو أقوياء أو ضعفاء. وقوله: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا﴾ أي شُغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا ﴿وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾ أي أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع، ولا تكن مطيعا ولا محبا لطريقته ولا تغبطه بما هو فيه”. (تفسير ابن كثير: 3/ 110).
فاللهم وفقنا لاختيار الرفقة الصالحة واجعلنا من الصالحين، واجعلنا سببا لهداية الفاسقين واحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من مكر الفجار وطوارق الليل والنهار، إلا طارقا يطرق بخير يا عزيز يا غفار.
ذ. شفيق لعرج